Author

هل طرق سمعكم مصطلح «اليسارية الإسلامية»؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
قد تأخذ الدهشة مأخذها إن وقعت أعين بعض القراء الكرام على مصطلح "اليسارية الإسلامية". وشخصيا، أخذني الذهول عند قراءتي هذا المصطلح، وهو ترجمة للمقابل بالإنجليزية Islamo Leftism.
والمصطلح حديث العهد، جرى استنباطه وإطلاقه في خضم المواجهة الخطابية والخلافات الحادة في فرنسا أخيرا، حول سن الحكومة قوانين جديدة تدعي أن غايتها تنظيم وجود المسلمين ومؤسساتهم في البلد.
وهذا مصطلح جديد يندرج ضمن عدد لا بأس به من الاصطلاحات، التي يستنبطها أصحاب السلطة والشأن، للدلالة، وفق وجهة نظرهم، أن هناك خللا في الواقع الاجتماعي.
ولا غرابة في أن يكون منشأ المصطلح فرنسا، الدولة التي ندين لها كثيرا من المفاهيم والأفكار والأطر الخطابية المتعلقة بالمجتمعات المدنية الحديثة.
أليست فرنسا وثورتها في القرن الـ18، التي يرى فيها كثير من المفكرين في العالم، فاتحة عهد جديد من التنوير الذي سلط الضوء على ما كان في حينه بمنزلة دهاليز الظلام، تستغلها مؤسسات الحكم من دينية وغيرها؟
الأفكار والنصوص مهما كانت سامية، قد لا تجلب ممارسات سامية. كانت المفاهيم التي أتت بها الثورة الفرنسية ومنظروها من المفكرين والفلاسفة سامية حقا، بيد أن ممارسات السلطات الثورية، التي تبوأت الحكم في فرنسا، وصلت إلى درجة من السوء قد يفوق ما كانت تقترفه السلطات التي أزاحتها.
لن أدخل في تفاصيل المآسي والانتهاكات التي رافقت الاستعمار الفرنسي الحديث - أي ما بعد الثورة الفرنسية - لأن شواهد ذلك لا تزال شاخصة في كثير من البلدان التي استعمرتها فرنسا.
نبش الماضي جزء من التاريخ، وماضينا جزء من التركيبة الاجتماعية التي نحن عليها في الحاضر، إلا ما معنى أن يهب تيار فرنسي يميني التوجه لربط اليسار الفرنسي بالإسلام ونعته بـ"اليسارية الإسلامية"؟
لا يخفى، هناك حركة فكرية ذات تأثير كبير في الجامعات الغربية والفرنسية خصوصا، لكتاباتها الأكاديمية وقع ليس في الأروقة العلمية فحسب، بل في الإعلام وعامة الناس أيضا، وهنا تكمن أهمية البحث العلمي الرصين الذي لا يجوز أن يبقى حبيس الحرم الجامعي.
وما يميز هذه الحركة والمنتمين إليها، أنها تنحو صوب اليسار، ليس بالمعنى السياسي، بل من خلال توجهاتها الفكرية والفلسفية والمفاهيم والنظريات التي تشكل أسس البحث العلمي في مضمار اللسانيات والعلوم الاجتماعية.
اليسار السياسي في الغرب قد يكون أقسى وأكثر صرامة في تنفيذ التوجهات السلطوية وأجندات هدفها سلب حريات الآخرين والتدخل في شؤونهم وتهميشهم ونهب ثرواتهم والتحالف المتين مع الحكومات والسلطات التي تقهر شعوبها.
الحركة الأكاديمية، التي نعتها بعض المسؤولين الفرنسيين بـ"اليسارية الإسلامية"، لا يقودها مسلمون. إنها حركة أكاديمية فكرية منهجية محكمة ومؤثرة جدا في الأروقة الجامعية وطرائق البحث العلمي في الغرب لتعرية الاستبداد والظلم والقهر والاستعمار الحديث والرأسمالية الطافحة ضمن وفي خضم ما يفرزه عالمنا هذا من أزمات شديدة بالكاد ننجو بجلدنا من واحدة منها حتى تقحمنا النظم الغربية في أخرى أسوأ من سابقتها.
وترى الأبحاث العلمية الرصينة، التي يجريها الباحثون، الذين يستندون إلى النظريات والفلسفات والأفكار التي تميط اللثام عن القهر والظلم المكبوت وغير الظاهر، أن الظلم الذي رافق ولا يزال، الاستعمار الحديث وتركيز السطوة والقوة والمال لدى الحكومات والمؤسسات الغربية التي تدعي الحرية وحقوق الإنسان، هو سبب معاناة البشر إن كانوا يقطنون في هذه الدول أو خارجها.
كلما زاد تركيز السلطة والمال والقوة لدى أفراد أو مؤسسات أو حكومات محددة، زادت الخشية والخوف مما قد لا يحمد عقباه. البشر قد يتمردون حتى على نفوسهم وما حواليهم إن جنوا من الدنيا أكثر بكثير مما يستحقونه.
الحركة الأكاديمية هذه صار لها عقود، وزاد من تألقها وتقبلها في الأروقة العلمية فلاسفة فرنسيون، خصوصا عندما درسوا الخطاب وأظهروا كيف أن أصحاب السلطة والمال والقوة يمدون ويمطون، لا بل يخطفون حتى اللغة وأطرها من نحو وصرف على مستوى باب من أبواب النحو، مثل المبني للمجهول، لتثبيت أركان حكمهم وتوجهاتهم.
وكانت هذه الحركة مقبولة بصورة عامة حتى من الباحثين ذوي التوجه اليميني، ليس ضمن المفهوم السياسي حصرا، بل ضمن توجه فكري وفلسفي وأكاديمي يرى عكس ما يراه الطرف الآخر. هؤلاء، واستنادا إلى ما لديهم من فلاسفة ومفكرين ومناهج، يسعون إلى تقديم الأدلة التي ترى في الاستعمار والرأسمالية نعمة للبشرية.
الأكاديمية والأبحاث العلمية تزدهر وتنمو ضمن الحوار والنقد، وكان السياسيون إلى وقت قصير يعتمدون الجانب الذي يوائم توجهاتهم، دون ضجيج يذكر.
ماذا كانت خطيئة العاملين من الأساتذة والباحثين الجامعيين ذوي التوجه والأفكار التي قد تتلاقى مع مفهوم اليسار من حيث الوقوف عكس تيار السطوة والقوة والمال؟
خطيئتهم كانت أنهم وقفوا بقوة وصرامة ضد بعض التوجهات السياسية والفكرية في فرنسا، التي ترى في المسلمين والإسلام كدين خطر على المجتمع.
وعندما انبرى لهم هؤلاء المفكرون والباحثون متكئين على نظرياتهم العلمية الرصينة التي لاقت رواجا كبيرا في الإعلام وفي الشارع، ما كان من الطرف المتطرف الآخر إلا استنباط مصطلح جديد لتهميشها.
وهكذا نعتوا هذه الحركة التنويرية، التي وضعت أسسها الفكرية مدرسة فرانكفورت الفكرية للنقد الاجتماعي في أوائل القرن الـ20 بـ"اليسارية الإسلامية"، رغم أن الإسلام كفكر ومنهج ودين وأتباع، لا ناقة له بها ولا جمل.
إنشرها