Author

الفيروس المنهك وتاريخ الأمم

|
كلما تأملت في حياة الأمم، والشعوب زادت حيرتي بشأن الصعود لأمة من الأمم لعقود، أو ربما لقرون، ثم لا تلبث أن تسقط، وتفقد نفوذها الذي حازته، وسادت بسببه على العالم، أو أنحاء من العالم بالرجوع لجهود المؤرخين نجد منهم من اهتم بآثار الأمم في لباسها، وأدوات معيشتها، ومواد البناء، واللباس، والحلي وغيرها، لكن لا نجد ما يجيب عن سؤال لماذا تصعد الأمة ثم لا تلبث أن تسقط؟ أما الفريق الآخر من المؤرخين فإنهم يهتمون برصد الأحداث في تواريخها، ومواقع أحداثها، وقادة الأحداث، مع وجود من يجتهد في معرفة أسباب حدث بعينه، كما في الحرب العالمية الثانية التي جاءت بسبب نزعة هتلر التوسعية، ورغبة الهيمنة كما يشاع ويتردد رغم أن السبب، أو الأسباب الحقيقية أمور أخرى مختلفة كلية عما يقال، إلا أن النتيجة النهائية للحرب ترتب عليها سقوط ألمانيا، ودمارها، وفقدانها النفوذ، والقوة التي تتمتع بها.
القراءة المتأنية للأحداث، والتعمق فيها، وسبر وضع المجتمعات تأملا، وتحليلا هو ما يمكن أن يوصل الباحث إلى السبب الحقيقي للسقوط، وليس السبب، أو الأسباب الظاهرية، حتى ولو كان الحدث كبيرا، ومؤثرا بشكل قوي.
تاريخ البشرية مليء بالأمم التي سادت في فترة من عمرها، ولم يتبق منها إلا آثارها التي طمرتها الرمال، وفقد بعضها، بفعل عوامل التعرية رغم ضخامة، وقوة منتجاتها، كما في قوم عاد، وثمود الذين نحتوا الجبال لإيجاد مدنهم، وكما الفراعنة الذين بنوا الأهرامات، ولا تزال شاهدة فوق سطح الأرض، هذه الأمم سادت ثم بادت، دون معرفة الأسباب الكامنة وراء الاندثار، والخروج من مسرح الحياة، عدا ما بقي من آثار مطمورة.
اليونانيون والرومان كان لهم دور في دورة العالم التاريخية، حيث الصعود والسقوط والانتشار والانحسار هي القانون السائد الذي لا يستثني أحدا، وهذا ما حدث للعرب، والمسلمين، حيث امتد النفوذ إلى قلب أوروبا، وإفريقيا، وآسيا، واستمر لقرون، كما في الأندلس، إلا أن قانون الصعود، والسقوط كان له دوره بسبب ظاهر تمثل في ملوك الطوائف الذين أصبحوا يتقاتلون فيما بينهم، بل يستعين بعضهم بالأعداء، حتى سقط الجميع، ولم يتبق منهم إلا المدن والمعارف التي حفظت في الكتب، وسلمت من الإحراق لتقيم عليها أوروبا حضارتها المعاصرة، وتطور واقعها.
في عصور متأخرة حديثة، ومعاصرة ظهرت على الساحة الدولية أمم كان لها صولة، وجولة، وتأثير إيجابي، وسلبي ولعل أوروبا ممثلة في بعض دولها كبريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس انكفأت على نفسها، ليست قناعة بالتخلي عن الدول التي كانت تحتلها، لكن لرفض الشعوب، وثورتها ضد المحتل، لكن هذا لا يكشف أسباب الخمول، أو الانكماش الحضاري، وهذا ينطبق على دول أوروبية أخرى كفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، حيث امتد نفوذ هذه الدول إلى دول إفريقيا، وآسيا، حتى انتهى هذا النفوذ، وعادت هذه الدول إلى داخل حدودها، والانشغال بشؤونها الداخلية، مع تحركات هنا وهناك، كما تفعل فرنسا في مالي والنيجر وغيرها للمحافظة على مصالحها الاقتصادية والثقافية.
الأسباب الظاهرة، كما قلت، لا تكفي لمعرفة أسباب الفيروس المنهك، بل المدمر للحضارات، ولذا يمكن القول: إن معادلة سقوط الحضارات تتمثل في عوامل متعددة، منها الاقتصادي، والسياسي، وتشرذم المجتمع إلى فئات، وجماعات متحاربة فكريا، وربما عسكريا، إضافة إلى التخلف المعرفي، إلا أن فيروس التدمير الأساسي - في نظري - يتمثل في البعد الأخلاقي حين يختل ميزان العدل، ويشيع الظلم سواء على المستوى الداخلي، أو المستوى الخارجي، كما تفعل القوى العظمى في الوقت الراهن مع الدول الضعيفة عسكريا حين تنهب ثروات الشعوب، وتستبيح الأراضي، وتمرغ سيادة الأمم في الوحل كما تفعل أمريكا وكما فعلت دول الاستعمار وكما كان يفعل الاتحاد السوفياتي، وتفعل وريثته روسيا.
يكثر الحديث بشأن تراجع أمريكا في ريادة العالم لصالح الصين التي أصبحت منافساً قوياً اقتصادياً، وتقنياً ، وسياسياً، ولذا يلحظ المراقب تحركات الأجهزة الامريكية بتصنيفاتها كافة؛ للحد من النفوذ الصيني.
لذا تحليل تاريخ أمريكا، يجد المرء فيه الكثير من المظالم الداخلية والخارجية، وهذا يؤكد أن صعود، وهبوط الأمم مرتبط بفيروس الظلم الذي لا يحابي أحداً.
إنشرها