جواد ظريف: الدبلوماسية أن تمثل دور الصديق

جواد ظريف: الدبلوماسية أن تمثل دور الصديق
جواد ظريف مستمعا للمندوب السوري في الأمم المتحدة بشار جعفري.
جواد ظريف: الدبلوماسية أن تمثل دور الصديق
اشترط ظريف لبدء الحوار عدم تناول الوثائق السرية وأسرار النظام.

أحدث كتاب "سعادة السفير- محمد جواد ظريف" لحظة إصداره، جدلا داخل إيران، فقد ‏راوح تلقيه في الأوساط الإيرانية بين فصيل التأييد المطلق، وفصيل النقد اللاذع حد الاتهام ‏بالخيانة والعمالة، وامتد نطاق الجدل بإصدار أوامر بمنعه من النشر والتداول، حتى شهر ‏آب (أغسطس) عام 2013، مع انتهاء ولاية الرئيس أحمدي نجاد.‏
يضم الكتاب، المترجم إلى العربية بقلم محمد العطار عن مركز أوال للدراسات والتوثيق ‏‏"2017"، تفاصيل جلسات حوارية، استمرت أكثر من ‏40‏ ساعة، بين محمد جواد ظريف ‏ومحاوره محمد مهدي راجي، جرت أطوارها، ما بين شتاء 2010 وربيع 2012، في رحاب ‏غرفة في كلية العلاقات الدولية في وزارة الخارجية، واشترط ظريف لبدء الحوار، عدم تناول الوثائق ‏السرية وأسرار النظام، ولا سيما ما يتعلق بالملف النووي، ما جعل متن الكتاب مزيجا من السيرة ‏الذاتية، تهم جوانب من الحياة الشخصية لظريف، وشهادات في التاريخ الشفوي، كمبحث ‏متعارف عليه اليوم، ضمن فروع علم التاريخ.‏
جاء الكتاب في ‏15‏ فصلا، امتدت على مدار ‏487‏ صفحة، تباينت من حيث العناوين ‏ما بين الذاتي الصرف "السيرة الذاتية، استراحة ظريف..."، والقضايا الإيرانية الخالصة ‏‏"الحرب الإيرانية العراقية، العلاقات الأمريكية الإيرانية، الملف النووي..."، والمشكلات ذات ‏الطابع الدولي "في الأمم المتحدة، روسيا والصين، الغزو الأمريكي للعراق...". لم يقدم ظريف، ‏رغم الاستغراق في التفاصيل، وحجم الكتاب الكبير نسبيا، أسرارا نوعية للقراء، فمعظم ما جاء ‏في الكتاب معروف، إلا أنه من حيث لا يدري، عرض شهادة حية، بلسان واحد من أهل الدار، ‏عن حقائق داخل الجمهورية، تنكشف باستنطاق السطور، ما يجعل الكتاب جديرا بالقراءة.‏
أول تلك الحقائق تتعلق بثقة النظام الإيراني بأبنائه، حين يتحدث ظريف عن معاركه ‏في السلك الدبلوماسي، من أجل إثبات الذات لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة، وما رافق مسيرته، ‏من اتهامات بالعمالة والولاء لأمريكا، لدرجة إحالة ملفه إلى المخابرات الإيرانية. مخاوف تبقى ‏مقبولة في البداية، بمبرر خوف النظام من الاختراق، لكنها تصبح بلا محل من الإعراب، عندما ‏يتحدث الرجل، بعد أعوام من العمل لمصلحة طهران في نيويورك، عن أن "من أسباب عزلي ‏أنني كنت مراقبا، ومن واجب المراقب أن يقول ما يراه، لا أن يفكر أولا فيما يعجب المستمعين ‏وما يعجب الرؤساء".
يسعف تعريف الدبلوماسية، على لسان الرجل، في فهم كثير مما ترعاه طهران، ‏في مناطق مختلفة من العالم، حيث يقول إنها "فن الحصول على أكثر المصالح بأقل التكاليف". ‏بدا واضحا أن هذه عقيدة راسخة لدى النظام، منذ قيام جمهورية المرشد، فقد تركت إيران ‏دبلوماسيين قدماء من أيام الشاه، في مناصبهم في السلك الدبلوماسي في الأمم المتحدة، على الرغم من ‏أنهم لا يحظون بثقة النظام الجديد، بيد أنه كان مجبورا على إبقائهم، حتى لا تبقى وزارة ‏الخارجية بلا كوادر. ما يفيد بسيادة البراجماتية في السياسة الإيرانية "الثورية".
ظهرت البراجماتية بجلاء، في هجوم محمد ظريف على الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي ‏نجاد، بعد تصريحاته المتشددة حول الهلوكوست، ومزاعمه بإزالة إسرائيل من الوجود، ما ‏يؤكد بمفهوم المخالفة أن الأمر مجرد دعاية إعلامية، لدغدغة مشاعر بسطاء الناس داخل ‏إيران، إذ لا يمكن أن يتحفظ من يمثل الدولة، داخل أروقة الأمم المتحدة، على هذا الكلام، لو كان ‏جزءا من استراتيجية النظام في إيران، ذلك لأنه، بكل بساطة، يدرك جيدا ثمن معارضة ‏إملاءات المرشد.‏
يتحدث الدبلوماسي الإيراني، في أكثر من سياق في الكتاب، عن الصراع الإيراني ‏الأمريكي، عادا أنه يستنزف دولته، لكونه يصب في مصلحة دول أخرى، أي الدول المناوئة ‏لإيران، ويضيف، بنوع من الحسرة، "إن الذين يصفقون لنا، لأننا نقف في وجه أمريكا، هم ‏يحبوننا، لكن هذا الحب سلبي". في موقع آخر ضمن المؤلف، يجره الحديث إلى إظهار ما جاء ‏مضمرا في فصول خلت، فيشير على سبيل المثال إلى أنه "لو لم تكن العلاقة الإيرانية - ‏الأمريكية بهذا الشكل، لم تكن تركيا لتبرز في العالم الإسلامي كنموذج جيد للحكم"، مؤكدا أن ‏‏"راية الرئيس محمد خاتمي التي أراد رفعها في العالم الإسلامي، أي راية الاعتدال، راية ‏الحوار، راية المخالفة العقلانية ضد إسرائيل، والاستقلال عن أمريكا، أصبحت اليوم في يد ‏تركيا"، مشيرا إلى الفارق الكبير بين حركة خاتمي التي يصفها بأنها "مبدئية"، وبين حركة ‏أردوغان التي يجد أنها "سياسية".‏
سرعان ما سيلتف ظريف على هذا الموقف، عند الحديث عن العلاقة بين إيران ‏والولايات المتحدة، حيث ينظر إليها ببرجماتية عالية، فيقول "إن العلاقة مع أمريكا أو أي دولة هي ‏أداة، تجب الاستفادة منها في تحقيق المصالح الوطنية، والعلاقة مع أمريكا ليست واجبة، وفي ‏الوقت نفسه ليست حراما"، ويضيف بنوع من التفصيل "إن الأمريكان ليسوا أصدقاء لنا، ويجب ألا ‏نضع بين أيديهم الأدوات والأسلحة التي سيحاربوننا بها، لكن لا يمكن تجنب نوع من الحوار ‏والعلاقة معهم".‏
يستمر الرجل في التناقض مع ذاته، عند الحديث عن نفسه، مؤكدا أنه لم يحدث قط أن ‏أقام علاقة صداقة وثيقة مع مندوب دولة ما، ففي رأيه، "يجب أن تكون واقعيا في الدبلوماسية، ‏وألا تعد أحدا صديقا، وأن تمثل في الوقت نفسه دور الصديق"، طالما كان هذا التمثيل ملجأ ‏الدبلوماسيين الإيرانيين، لحظة الجهل بموضوعات معينة، حيث يؤكد أنه "كنا نخفي كل جهلنا ‏باسم الاستكبار العالمي وتصدينا له، ولهذا، منذ أن اكتسبنا تجربة، وأولينا الموضوعات العالمية ‏أهمية، استطعنا القيام بعمل ما".‏
يكفي آخر اعتراف لمساءلة الثقافة الشعاراتية "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، محور ‏الممانعة..." التي قامت عليها الجمهورية الإيرانية، ولا تزال تسير بوقودها إلى اليوم، هل تبني ‏رموز الدولة هذا السلوك نابع من قناعات ثورية حقيقية أم مجرد زيف لخداع الشعوب؟ لا يجيب ‏‏"سعادة السفير" بشكل مباشر عن هذا السؤال، لكن ما بين سطور فصول الكتاب يقدم إجابات ‏شافية عنه. ‏

الأكثر قراءة