عملاق ولكنه مكبل اليدين
نسمع ونقرأ كثيرا عن رغبة الولايات المتحدة في العودة إلى المسرح العالمي والشروع بقيادته بصورة مباشرة بعد أربعة أعوام من حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي رفع شعار "أمريكا أولا" ومارسه وطبقه على أرض الواقع.
لم يمض على تولي الإدارة الأمريكية الحالية شهران، إلا أن الخطوط الرئيسة لما ستتبعه داخليا وخارجيا، باتت واضحة. في الأغلب، نحتاج إلى 100 يوم، وهي الفترة التي ينتظرها الكل بفارغ الصبر لمعرفة توجهات أي إدارة جديدة في البيت الأبيض.
ويبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن، التي تسلمت زمام الأمور في منتصف الشهر المنصرم، كانت في عجلة من أمرها، حيث كشفت تقريبا عن المسارات الرئيسة لما ستتبعه من سياسات، وهي لم تكمل شهرين من الإقامة في البيت الأبيض.
وشخصيا، لما استعجلت في الكتابة في موضوع مثل هذا لولا أن سبقني إليه كتاب ومحللون لا يشق لهم غبار ولكتاباتهم وقع في أروقة البيت الأبيض.
وفي الأسبوع الفائت، قرأت سلسلة مقالات في الصحافة الأمريكية لها ولما تكتبه شأن وتأثير في أصحاب القرار.
ومن بين تلك الكتابات، استرعى انتباهي مقال في مجلة "فورين أفيرز Foreign Affairs"، فيه ينصح الكاتب الإدارة الحالية بالتروي وعدم العجلة وعدم الجري وراء الطموحات الكبيرة التي أطلقتها في الأسابيع القليلة من وجودها في البيت الأبيض.
وكذلك توقفت كثيرا عند كتابات أخرى حول مسيرة الإدارة الأمريكية الحالية بعد انجلاء خطوط استراتيجيتها وبفترة تعد قياسية في تسنم الإدارات الجديدة مقاليد الحكم.
وما شدني كانت العبارة التي أتت بما يشبه النصيحة للإدارة الحالية في مجلة "فورين أفيرز"، التي تدعو منظري السياسة والاستراتيجيات للأعوام الأربعة المقبلة إلى الانتباه أن كون أمريكا دولة عملاقة، فإن هذا لا يعني أنه ليس هناك ما يكبل يديها في عالم اليوم.
وذكرت، ساكن البيت الأبيض إن كان في السابق عملاق واحد طليق اليدين وهو أمريكا، فهناك في الطريق عمالقة آخرون لن يرضوا أو يقبلوا أن تقودهم واشنطن وتقرر لهم مصيرهم.
وبقدر تعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط، تكاد الآراء تتفق أن الهبة الأولى للإدارة الحالية للتخلص مما تسميه النهج السابق صوب المنطقة أو إجراء تغييرات جوهرية عليه، لن تلقى النجاح، وأن العودة إلى المسلمات القائمة لا بد منه.
وهناك نقد جلي لما تطلق عليه بعض الصحف بالتوجس من "الترامبية،" أي العمل الحثيث لاستئصال الإرث الذي خلفته وراءها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
"الترامبية"، حسب ما تنقله الكتابات هذه، لم تكن غيمة عابرة، بل سحابة كثيفة ستظلل الساحة الأمريكية أعواما إن لم يكن عقودا، كما شهدت له نتائج الانتخابات الرئاسية التي أظهرت أن نحو نصف الأمريكيين يناصرونها.
وتأثير "الترامبية" لا يزال محسوسا في أكثر من مضمار، وما الإجراءات الأمنية الداخلية الكثيفة لحماية المنشآت الفيدرالية الحساسة، سواء في واشنطن أو غيرها، إلا دليلا آخر على أن ترمب، وإن كان قد غارد البيت الأبيض جسميا، إلا أن ظله لا يزال قائما.
وحتى دول أوروبا الغربية، وهي أقرب الحلفاء لأمريكا، لن تقبل أن تقودها أمريكا كأتباع. هناك نزعة استقلالية واضحة أملتها الأعوام الأربعة لترمب.
فألمانيا ودول أخرى في الغرب لها مصالح كبيرة مع روسيا والصين، وقد لا تشارك أمريكا رغبتها في احتواء أو التضييق عليهما. والاقتصاد الألماني، وهو رابع اقتصاد في العالم، لن يتحمل تقييد تجارته مع الصين لشدة التشابك والاعتماد المتبادل.
صحيح أن المعركة الرئيسة التي أمام الولايات المتحدة خوضها هي في آسيا والمحيط الهادي حصريا، أي مع الصين، لكن سيبقى الشرق الأوسط منطقة استراتيجية، فقدانه سيؤدي إلى زيادة ضغط الأكبال على التقييدات الحالية التي تحول دون أن تتمكن من إطلاق يديها في العالم.
قد لا تكون الإدارة الحالية أو أي إدارة أخرى على استعداد لإنفاق ستة تريليونات دولار على الحروب في المنطقة كما فعلت في العقدين الماضيين، لأن الاقتصاد الأمريكي لن يتحمل هذا العبء الكبير مرة أخرى، إلا أن وجودها والحماية التي كانت تقدمها ستبقى على ما هي عليه ولو عن طريق استراتيجيات مختلفة.
الصين ستبقى وجع الرأس لأمريكا أكثر من السابق. الاقتصاد الصيني تضاعف 40 مرة في الـ40 عاما الماضية، أي منذ أن دشنت الصين سياسة الانفتاح الاقتصادي. كم سيصبح حجم اقتصادها لو أن مسيرة مضاعفة حجم الاقتصاد كل عام دامت خمسة أعوام مقبلة مثلا؟
أي منافس في أي مضمار سيأخذ نموا بهذا الحجم الكبير في الحسبان، ويجعل التعامل معه في رأس القائمة في جدول أعماله.
أن يأخذ التعامل مع الصين المقام الأول في السياسة الأمريكية، يتفق عليه كبار المحللين الذين قرأنا لهم في الأسبوع الفائت، "ولكن مغادرة الشرق الأوسط وتركه لدول، إيران مثلا، تعبث وتتدخل في شؤون دول أخرى منتهكة القوانين الدولية، لن يحدث، ليس حبا في المنطقة، بل حبا في أمريكا ذاتها، لأن ذلك إن حدث - وهذا احتمال غير وارد - تكون أمريكا قد أحكمت القيد على نفسها بنفسها في صراعها على زعامة العالم".