الجائحة تشل صناعة سفر عالمية قيمتها 8 تريليونات دولار
لم يتلق قطاع السفر والسياحة ضربة قاصمة في تاريخه مثلما حدث له منذ انتشار وباء كورونا، ففي غضون عام باتت المطارات مدن أشباح، وأضحت عملية التنقل بين الدول المختلفة لدواعي السياحة أو غيرها من الدواعي بين ممنوعة أو محدودة أو مقيدة.
وفي جميع أنحاء العالم، أدى انهيار الاقتصاد السياحي إلى إفلاس الفنادق والمطاعم وشركات تأجير السيارات وغيرها من الأنشطة المرافقة أو التي تخدم هذا القطاع، وبين عشية وضحاها فقد ما يقدر بنحو مائة مليون شخص من العاملين في القطاع السياحي ومجال السفر أعمالهم.
باختصار، أدى الوباء عمليا إلى شلل صناعة السفر العالمية التي تقدر قيمتها الإجمالية بثمانية تريليونات دولار، وأصبح العالم على قناعة الآن أكثر من أي وقت مضى بأن الركائز الأساسية للسفر والسياحة في القرن الـ21، التي تتضمن الحدود والوجهات السياحية المفتوحة والسفر دون تأشيرة لن تعود على المدى القصير أو حتى على المدى المتوسط.
لا شك أن التوصل إلى مجموعة من اللقاحات وقيام عدد من دول العالم بعمليات تطعيم على نطاق واسع، أسهم نسبيا في إيجاد بوادر إيجابية بشأن إمكانية أن يتحسن وضع قطاع السفر والسياحة في صيف عام 2021.
لكن الأمر ليس مؤكدا أو قاطعا مع أنه محتمل، فعدم اليقين والخوف السائد بين الحكومات والأفراد أمر محبط للسفر والسياحة، فكثير من الحكومات حتى التي قامت بعمليات تطعيم ناجحة تتهيب أن تفتح أبوابها في فصل الصيف، فلا أحد يعلم بشكل قاطع فاعلية اللقاحات ومدى استدامتها، ولن تتحمل الحكومات العودة مرة أخرى إلى سياسة الإغلاق بما لها من عواقب اقتصادية وخيمة.
لكن كيف ستؤدي جائحة كورونا إلى إعادة تشكيل سوق السفر والسياحة العالميين، وكيف سينعكس ذلك على الاقتصاد الدولي؟
في نظر عدد من الاقتصاديين لم تكن إيجابية السياحة والسفر تنحصر في جانب ترفيهي للأفراد والعائلات فحسب، فعلى الرغم من أهمية هذا الجانب لإنسان القرن الـ21، ليتمكن عبر تجديد حالته النفسية من مواجهة الضغوط الحياتية، ومن ثم تكون الرحلة السياحية أو السفر بمنزلة فترة استراحة تمنحه القدرة على مواصلة العملية الإنتاجية بالكفاءة المطلوبة، فإنه يمكن النظر إلى قطاع السياحة والسفر باعتباره آلية لإعادة توزيع الثروة على المستوى العالمي، من خلال إنفاق السياح القادمين من الدول الغنية لزيارة "دول الجنوب" أو الدول النامية التي تعتمد اقتصاداتها على السياحة.
تلك الآلية لا شك أنها ستصاب بضرر كبير إذا لم يستعِد القطاع عافيته السابقة.
وفي هذا السياق، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور جي. ك. جيمس أستاذ السياسات التنموية في جامعة اباردين، "البطالة الجماعية كما حدث في قطاع السياحة الدولية تترك في الأغلب ندوبا يصعب أن تندمل في سوق العمل، فالانهيار العالمي الحالي في مجال السياحة والسفر سيؤدي إلى تغييرات طويلة الأجل في أنماط الحركة الدولية لكل من العمل والاستمتاع".
ويضيف "شركات الطيران وأصحاب الفنادق يأملون أن تسمح "فقاعات السفر" المقبلة، التي ستتمثل في مجموعة صغيرة من الدول التي ستعيد فتح الحدود، وكذلك "الممرات الآمنة" للمسافرين وهي الممرات التي سيسلكها المسافرون الذين تم فحصهم مسبقا، في أن تنعش حركة السياحة ولو بشكل طفيف، لكن الأرجح أن نظاما جديدا من المناطق الآمنة المتشابكة سيعمل في الأمد المنظور، أو على الأقل حتى يتم تطعيم أغلب سكان الكرة الأرضية وتلك عملية قد تستغرق أعواما عديدة.
وبهذا يمكن الجزم بأن هيكل السفر العالمي سيتغير في المستقبل، وسيفضل كثيرون السياحة الداخلية أو عدم السفر خاصة كبار السن الذين كانوا يمثلون نسبة ملحوظة من السياحة الدولية.
في المقابل، ستنتعش السياحة في الدول التي لديها سجل قوي في مواجهة الفيروس، بل ستستغل ذلك في استراتيجيات التسويق السياحي المقبلة.
بدورها، تقول لـ"الاقتصادية"، لورين جاك المديرة التنفيذية السابقة في اتحاد النقل الجوي الدولي، "يصعب القول إن معدلات السياحة العالمية ستعود إلى وضعها الذي كان سائدا قبل تفشي الفيروس، لن يتحقق هذا قبل عشرة أعوام من الآن في أفضل تقدير، وحتى إذا عادت إلى المعدلات السابقة فلن تتصف بالاستدامة والاستقرار، وستكون دائما معرضة للاهتزاز السريع، وفقدان العملاء مع أول أعراض طفيفة لظهور الفيروس من جديد".
وتضيف "تكلفة السياحة والسفر ستشهد زيادة واضحة، وسيأخذ السفر شريحة أكبر من دخلنا المتاح، نظرا إلى التكلفة الناجمة عن الأساليب والتدابير التي ستتخذها الحكومات لضمان عدم سفر الأشخاص المصابين بالفيروس أو استقبال سياح مصابين أو حاملين للعدوى، هذا سيتطلب إلزام المسافر بفحوص قبل السفر وبعده، وربما حجر صحي لبعض الوقت كما في بريطانيا حاليا، كل هذا سيرفع من تكلفة الرحلة السياحية، ويحد بشكل ملموس من الإقبال على السياحة الدولية، وعلى الرغم من أن بعض الرسوم قد تنخفض، حيث ستكون ترتيبات الحجز أكثر مرونة وستتراجع رسوم التغيير والإلغاء نتيجة شعور عدم اليقين الذي سيظل سائدا في السلوك البشري العام لبعض الوقت، فإن التكلفة العامة للسياحة سترتفع".
في هذا الإطار يعتقد البعض أن الهياكل الاستثمارية المتعلقة بالسياحة ستشهد تغيرات جذرية في الأعوام المقبلة.
ولـ"الاقتصادية"، يعلق ويليام دين نائب رئيس شركة أكسبات اكسبلور للسفر قائلا، "رحلات السفر ذات الطبيعة الشعبية والرخيصة ستتراجع، فلن تكون هناك رغبة في زيارة شواطئ شعبية مزدحمة، أو المشاركة في المنازل، أو الفنادق الكبيرة أو المدن المزدحمة، جميعها ستأتي في مرتبة منخفضة في قائمة الرغبات والطلب".
ويضيف "في حين سيزداد الطلب على الرحلات السياحية الخاصة محدودة العدد، وبدلا من الإقامة في فندق سيفضل السائح الفيلات الخاصة، والقوارب، والمواقع السياحية الهادئة والبحيرات والجبال والمناطق الريفية، ولهذا يشهد القطاع السياحي الآن طلبا على ما يمكن أن نسميه "السياحة الماسية"، ففي جزر المالديف يمكنك الآن أن تنال العزلة والاستمتاع في آن، من خلال استئجار جزيرة بأكملها مقابل مليون دولار لمدة 15 يوما لـ50 شخصا فقط".
مقابل هذا النمط السياحي الخاص يعتقد البعض أن السياحة المحلية ستشهد انتعاشا كبيرا، بما يتضمنه ذلك من توجيه الاستثمارات لتشييد بنية تحتية تعمل على تلبية رغبات واحتياجات المستهلكين المحليين، عبر الأخذ في الحسبان مجموعة القيم والثقافات المحلية بدلا من الاتجاه الراهن القائم على إشباع رغبات المستهلك العالمي.
فالأنماط الاستثمارية الشائعة في المجال السياحي قبل تفشي الوباء كانت تستهدف في الأساس المعايير المرضية للسياح الأوروبيين والقادمين من الولايات المتحدة أو أستراليا، الآن ربما يتم التخلي عنها لمصلحة استهداف السائح المحلي، وربما يساعد ذلك على إعادة توزيع الثروة على المستوى الوطني، بل استفادة الطبقات المتوسطة والفقيرة من البنية الأساسية "الفنادق، المطاعم، المطارات، مناطق الترفيه" التي كانت تعمل في خدمة السائح الأجنبي، بما قد يتضمنه ذلك من التخلي عن الاتجاه الذي ساد أسواق السياحة العالمية قبل تفشي الوباء، الذي كان يعمل على توحيد معايير الحياة في الفنادق والمطارات في جميع أنحاء العالم.
إيرا كريس الخبيرة في المجال السياحي تعتقد أن وباء كورونا كشف عن تناقضات كامنة في القطاع السياحي، فعديد من المناطق السياحية الساخنة في العالم مثل البندقية وبالي وماتشو بيتشو في بيرو كان سكانها المحليون يعانون التدفقات السياحية الضخمة، وفي منطقة مثل البندقية تظاهر السكان المحليون مطالبين بوضع سقف لعدد السياح المسموح لهم بزيارة المدينة، فالكثافة السياحية المرتفعة لها جوانبها السلبية مثل تراكم القمامة والنفايات وتلوث الشواطئ وقنوات المياه والضغط على البنية الأساسية المحدودة، وقد تحسنت تلك الأوضاع مع انخفاض أعداد السياح.
لكن في الوقت ذاته انهارت الأعمال التجارية الواحد تلو الآخر، وتراجع مستوى معيشة السكان، وهذا يكشف مدى اعتماد عديد من الاقتصادات المحلية على السفر والسياحة.
وترى إيرا كريس أن أبرز ما سيشهده القطاع السياحي من تغير في المرحلة المقبلة هو تغير الوجهات السياحية العالمية، وسيتم اكتشاف وجهات جديدة بدلا من الوجهات التقليدية، فالعنصر الأساسي المقبل عند تحديد الوجه السياحية سيعتمد على مدى قدرة الحكومة المحلية أو الوطنية على التعامل مع الفيروس، فمناطق مثل الولايات المتحدة والبرازيل والهند وإندونيسيا قد تفقد جاذبيتها السياحية جراء تفشي الفيروس وارتفاع أعداد المصابين والوفيات وعدم نجاح حملتها للتطعيم، بينما تبرز مناطق أخرى مثل تايوان وكوريا الجنوبية كمناطق جذب سياحي عالمي.
ويعتقد بعض الخبراء أن عادات السفر ستتغير أيضا، إذ سيكون هناك ميل عالمي إلى المساحات المفتوحة على مصراعيها كالمتنزهات والحدائق والغابات، وستشهد سياحة الحياة البرية والبيئية ازدهارا مقابل السياحية التقليدية في المدن.