«انهضوا جميعا» .. نصيحة بايدن لشعبه
دخل جون بايدن البيت الأبيض في أجواء استثنائية، لا نظير لها في التاريخ الرئاسي للولايات المتحدة، بعدما رفض سلفه الجمهوري دونالد ترمب حضور مراسم تسليم السلطة، وامتد طابع الاستثناء ليشمل حفل التنصيب، الذي خضع لإجراءات أمنية مثلت سابقة لم تشهدها أمريكا في تاريخ تنصيب رؤسائها الـ45 السابقين.
تتعزز هذه الأحداث غير المسبوقة، بتحديات كبيرة تواجه جو بادين الرجل العادي، الذي دشن مساره السياسي، قبل نحو نصف قرن، حين استقل قطار أمتراك من محطة ويلمينجتون، ليباشر مهامه في الكونجرس عام 1973، بعد انتخابه سيناتورا عن ولاية دلاوير التي لا تكاد ترى بين ولايات ماريلاند ونيوجرسي وفيرجينيا، حتى أضحى رئيسا استثنائيا، بالنظر إلى حجم التحديات وطبيعة الرهانات التي تنتظره خلال الـ48 شهرا المقبلة، داخل جدران المكتب البيضاوي في واشنطن.
أولا: المصالحة الوطنية بين مختلف شرائح المجتمع الأمريكي، فمعطيات السياق الراهن، تفرض على بايدن إعادة ترتيب أولوياته، بتقديم رأب الصدع الاجتماعي على المجالين الاقتصادي والسياسي، وإن على المستوى النظري لصعوبة تحقيق ذلك من الناحية العملية. ما تلا إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية من أحداث، يؤسس لوضع يقسم الدولة على نحو عمودي، بالنظر إلى 74 مليون صوت التي تشكل الكتلة الناخبة المؤيدة لدونالد ترمب، وتحتم مراجعة الأوراق لمواجهة شارع مضاد للرئيس الجديد، أسهم ترمب في تعزيز مشروعية أفكاره، بأن الانتخابات مزورة والنصر مسروق، برفض الإقرار بالهزيمة ومقاطعة حفل التنصيب.
ثانيا: مواجهة كورونا وتوفير الأمن الصحي للأمريكيين، بالعمل على تجاوز مخلفات تدبير إدارة ترمب لمعركة الفيروس الصيني، كما يصفه الرئيس السابق بنوع من التردد تحول إلى كابوس، يقض مضجع الشعب الأمريكي، فقد أضحت أمريكا البؤرة الأولى عالميا، بوفيات تعدت عتبة 400 ألف وفاة، وعدد إصابات يقترب من 25 مليون مصاب، وهذا ما يعادل 1/4 الإصابات العالمية. وهذا يستدعي ردا سريعا ليس فقط على مستوى أمريكا نفسها، إنما على الصعيد العالمي، من أجل وضع استراتيجية كونية للتصدي لهذا الوباء الذي يكاد يشل البشرية منذ نحو عام.
ثالثا: التعافي من الأزمة الاقتصادية، فقد جاء فوز بايدن بعد دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة ركود حاد، أعقبت انتشار فيروس كورونا، وما استتبعه من إغلاق ألحق أضرارا كبيرة بالاقتصاد الأمريكي. فالأرقام الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي، تؤكد تراجع معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت معدلات البطالة من 3,5 في المائة، في شباط (فبراير) لتصل إلى 6,9 في المائة، خلال تشرين الأول (أكتوبر)، وفقد ما يفوق 15 مليون أمريكي وظائفهم، فضلا عن مواجهة الشركات صعوبات مالية. وضع سارع ترمب الزمن للخروج منه، بتبني سياسات تركزت على القضايا الوطنية بعدها أولوية أولى، لكن آثارها ستمتد للانعكاس على الاقتصاد والتجارة العالمية.
رابعا: التفاهم مع التنين الصيني، بالعمل على إيقاف الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، فمواجهة النمو العملاق لهذه الدولة، وغزوها السريع لكل بقاع العالم سيكون من تحديات كل رئيس أمريكي قادم خلال بضعة العقود المقبلة. لكن حظ الرئيس الحالي أن يرث العلاقات المتوترة لأربعة أعوام بين الدولتين، التي كادت أن تتحول إلى حرب ساخنة أكثر من مرة. سيستعين بايدن لتدبير الملف الصيني بتجربته كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما، وربما يستعيد من أرشيف الذكريات أيام "الشراكة المربحة للجانبين"، لكن هذه العودة، تفرض الأخذ في الحسبان أن الصين اليوم غير تلك التي كانت قبل ثمانية أعوام.
خامسا: تدارك مخلفات سياسة الأرض المحروقة، فمنذ معرفته بخسارة النزال الانتخابي، لم يتورع دونالد ترمب عن اتخاذ قرارات، من شأنها إرباك الإدارة الأمريكية الجديدة، ومن ذلك إقالة مارك إسبر وزير الدفاع، وما تبعه من قرار وشيك بانسحاب إضافي للقوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، بدعوى مواصلة تنفيذ الخطة المعلن عنها في أيلول (سبتمبر) الماضي، حين غادر 1200 جندي الأراضي الأفغانية، وقبل ذلك لم يتردد الرئيس السابق، في خلط الأوراق بإعلان انسحاب بلاده من بعض المعاهدات "اتفاقية باريس الخاصة بتغير المناخ مثلا" والمنظمات الدولية "الصحة العالمية نموذجا"، وكان حلف الناتو - بحسب جون بولتون الدبلوماسي الأمريكي - ضمن قائمة الهيئات التي ينوي ترمب مغادرتها، في ولايته الثانية.
سادسا: استعادة أوروبا، بالعمل على ترميم جسور الثقة مع الاتحاد الأوروبي الذي عانى كثيرا من التقلبات المزاجية للرئيس ترمب، وسياساته العدائية ضد الاتحاد، حيث احتل المرتبة الثانية بعد الصين، في الحرب التجارية الأمريكية. يتطلع الأوروبيون إلى تهدئة العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وإنهاء "حرب تجارية مصطنعة" تفرض تعريفات جمركية، أحادية الجانب، على تجارة الصلب والألمنيوم والسيارات، وتقدر قيمة هذه المنتجات الأوروبية بأزيد من 7,5 مليار دولار. يحضر الدفاع إلى جانب الاقتصاد، فالقادة الأوروبيون ينتظرون موقف الولايات المتحدة، على لسان بايدن، من المادة الخامسة للحلف، المتعلقة بالدفاع المشترك وإعادة دعم التكامل الأوروبي، لمواجهة التحدي الصيني والخطر الروسي، لأن القارة العجوز بحاجة أكثر من أي وقت مضى، منذ نهاية الحرب الباردة إلى المظلة الأمنية الأمريكية.
أوشكت أمريكا خلال ولاية الرئيس ترمب على السقوط، وذهب مراقبون إلى عد أحداث مبنى الكابيتول سقوطا. واختار الأمريكيون انتخاب رجل عادي، ذي باع سياسي طويل، يحمل معه كل ما هو مألوف، من القرن الـ20، لمواجهة هذه الأوضاع. جو بايدن سياسي بلا ملحمة شخصية يسوق بها نفسه كبطل في أعين الأمريكيين، سوى مآسي الفقد والحرمان والمعاناة، عقب وفاة زوجته الأولى وابنته الصغرى، التي يشارك فيها ملايين الأمريكيين.
وكأن بايدن ينتظر لحظة السقوط، فطالما ذكر في خطبه وحواراته نصيحة والده له حين كان صغيرا "أيها الفتى، إن قيمة رجل لا تكمن في كم مرة يسقط، بل في سرعة نهوضه بعد السقوط. إنني لم أر في حياتي هذا العدد من الأمريكيين وقد سقط. لكن، كما كان أبي يقول لي، حين تقع، انهض، انهضوا جميعا". يتوقع أن تكون هذه النصيحة بوصلة بايدن لمواجهة التحديات التي تحاصر الولايات المتحدة من كل جانب، فهل سيكون النهوض الأمريكي العادي أسلم من مساعي النهوض الاستثنائية مع أوباما وترمب؟.