Author

قرار توطين مهنة المحاسبة .. ما له وما عليه

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في الحقيقة لا أعرف من أين أنظر إلى قرار توطين مهنة المحاسبة، فهو من جانب محبط ويدعو إلى التفاؤل من جانب آخر، فهذا القرار بشكله يتضمن كثيرا مما سبق وناديت به في مسألة التوطين، لكنه بمضمونه محبط لعقود من العمل في التعليم الأكاديمي المختص، محبط لأعوام التعليم التي يمضيها الطلاب في الجامعات. فقد صدر قرار توطين مهنة المحاسبة بمستهدف 30 في المائة، وهنا نتفاءل، فالقرار يحدد نسبة في وظيفة لها طلب وفيها أكثر من 100 ألف أجنبي، ونتفاءل بأنه وضع حدا أدنى للرواتب ولو كان محبطا عند ستة آلاف ريال لحملة البكالوريوس و4500 ريال لحملة الدبلوم، وسيبدأ العمل به في أول ذي القعدة 1442هـ، ويشمل 19 تصنيفا للمهنة، وهذا يدعو إلى التفاؤل، ثم يستدرك القرار هذا التفاؤل بشرط محبط وهو حصول المحاسبين السعوديين على الاعتماد المهني من الهيئة السعودية للمحاسبين. ثم يعود التفاؤل بأن الوزارة ستقدم حزمة من المحفزات والدعم لمساندة القطاع الخاص في توظيف المحاسبين السعوديين، تشمل دعم عملية الاستقطاب والبحث عن الموظفين المناسبين ودعم التدريب والتأهيل الضروريين لضمان الاستقرار الوظيفي للمحاسبين، لكن التفاؤل يضيع قولهم: إن الوزارة صنفت مهن المحاسبة المستهدفة بالتوطين إلى 19 نوعا، لكن المحبط جدا أن هذا القرار بهذه الصيغة لم يفهم ما هي مهنة المحاسبة جملة وتفصيلا.
لقد قرأت القرار مرارا وتكرارا وخلصت منه إلى أن نظرة الوزارة لمهنة المحاسبة لم تتجاوز تلك الصورة النمطية التي صنعتها الأفلام والمسلسلات، رجل متوسط الحال يحمل حقيبة وأقلاما كثيرة ويضع قماشا أسود حول يده ويكتب في دفاتره في غرفة شبه مظلمة، لهذا حددت راتبا ستة آلاف ريال لتصنيف أكثر من 19 وظيفة متنوعة مختلفة جوهريا أسمتها كلها المحاسبة، ثم اشترطت فيها حصول الراغب في العمل على شهادات مهنية. وسؤالي للوزارة، هل تعتقد أن المحاسبة مجرد مهنة واحدة فقط؟ بمعنى أن شهادة مهنية واحدة تكفي الجميع، فلم أفهم كيف تشترط الوزارة هذا الشرط وهي تعترف بأنها تستهدف 19 نوعا، شملت مهن مدير شؤون مالية ومحاسبة، مدير حسابات وميزانية، مدير إدارة التقارير المالية، مدير إدارة الزكاة والضرائب، مدير إدارة المراجعة الداخلية، مدير الإدارة العامة للمراجعة، رئيس برنامج التدقيق الداخلي، مراقبا ماليا، مراجعا داخليا، مراجعا ماليا أول، محاسبا عاما، محاسب تكاليف، مدقق حسابات، فني حسابات عام، فني تدقيق حسابات، فني حسابات كلفة، مشرف مراجعة مالية، كاتب تكاليف، وكاتب مالية. فهل تدرك الوزارة أن لكل مهنة من هذه المهن شهادة خاصة ليست متوافرة في هيئة المحاسبين ولا يحق لها تقديمها ابتداء، بل هي شهادات لمؤسسات مختلفة لا يمكن حصرها أو عدها؟ وهل مطلوب لخريج بكالوريوس محاسبة أن يحصل عليها كلها كي ينافس في الحصول على وظيفة؟ أم عليه أن يحصل على إحداها فقط وينحصر فيها إلى الأبد؟ أي قرار توطين هذا لم يفهم ما شهادة بكالوريوس المحاسبة وما الشهادة المهنية. والأسئلة تتوالى، لماذا تم حصر الشهادة في الهيئة السعودية للمحاسبين، وهناك الجمعية السعودية للمراجعة الداخلية ولها شهادات خاصة وتدريب خاص، وهناك جمعية المحاسبين الإداريين، وغيرها كثير، كما لا يوجد شيء في مهنة المحاسبة يسمى الاعتماد المهني من أجل وظيفة، ولا يحق لهيئة المحاسبين أن تستولي على هذه المهنة، فحوكمتها لا تؤهلها لذلك أبدا، وهناك تعارض مصالح واضح، كما أنا هناك تحفظات على الشهادة، فكيف تختصر الوزارة هذه المهنة بطولها وعرضها أو تختطفها بشهادة مهما أسمتها، إذ لكل تخصص مساره ومعاييره وفكره المستقل تماما، وهناك من يمضي عمرا لفهمه.
ماذا أقول عن قرار لم يفهم أن مهنة المراجعة الداخلية ليست لها علاقة مباشرة بمهنة المحاسبة التي تشرف عليها الهيئة السعودية للمحاسبين، بل إن المعهد الدولي يرفض مثل هذه العلاقة جملة وتفصيلا، وسأزيد وزارة الموارد البشرية من الشعر بيتا إذا قلت: يجوز لمهندس طيران أو مدرس أو طبيب أو خريج شريعة أن يصبح مراجعا داخليا، فلماذا أسمتها الوزارة مهنة المحاسبة ثم اشترطت الاعتماد المهني من هيئة المحاسبين، إلا أن الوزارة لم تدرك ما هو بكالوريوس المحاسبة. لقد كان محبطا جدا أن تتجاهل الوزارة كل التفسير الفلسفي والتاريخي والمهني للشهادات المهنية في تخصصات المحاسبة، فإذا كانت هيئة المحاسبين قد ابتكرت شهادات ليس لها أصل مهني، فلا يعني أن تقوم الوزارة بمنح تلك الشهادات هذا الشرط في التوطين، فالشهادات المهنية في تخصصات مثل المراجعة الداخلية، بل الشهادات المهنية في كثير تفرق بين الاختبار المهني والشهادة، فالشهادة لا تمنح بمجرد الاختبار المهني، بل يجب أن تتم ممارسة المهنة مدة تزيد على عامين، فأين مثل هذا الشرط عن قرار التوطين الذي يشترط الشهادة قبل التوطين؟ ولا أعرف حتى الآن لماذا اشترطت الوزارة 4500 لحامل دبلوم، بينما تشرط ستة آلاف ريال لحامل البكالوريوس إذا كانت الشهادة المهنية هي الفيصل في التوظيف، خاصة أن معظم الشهادات المهنية تشترط البكالوريوس لدخولها، بمعنى أن على الوزارة وهي تطبيق القرار أن تفسر لنا، كيف ستطلب ممن لديه دبلوم أن يحصل على شهادة مهنية، أو تعفيه وتقوم بتعيينه وترفض تعيين حامل درجة البكالوريوس لأنه بلا شهادة مهنية؟ كيف للوزارة أن تفسر هذا؟ كما كيف لها أن تفسر وجود أكثر من 170 ألف أجنبي في تخصصات المحاسبة لم ولا يطلب منهم هذه الشهادات؟ فإن أصرت الوزارة عليها، فإننا أمام مشهد مهني غريب، ولن أناقش كيف ستتعامل الوزارة مع شهادات بحجم الدكتوراه والماجستير، وكيف لشهادة بكالوريوس محاسبة ومهنة عريقة جدا، وقد أصبحت شهاداتها تختصر وتختزل في "شهادة فني"، وقد كان يجب على الوزارة، وهي تتخذ قرارا بهذا الشكل، أن تخاطب الجامعات المسؤولة الأولى عن هذا العلم بكل تنوعه.
إنشرها