Author

الفوارق الطبقية في الإمكانات المهنية

|
هل تشهد الطبقة الوسطى من الموظفين هزة قوية؟ أم أن هذه الطبقة تعيش آثار هزات متتالية عاشتها أخيرا؟ لو كانت هذه الفكرة ليست خيالا وإنما هي واقع معيش، ما أثرها فينا؟ على غرار ما يحدث في حالة الثراء المادي في بعض الدول والمجتمعات من تآكل للطبقات الوسطى على حساب طبقتي الأغنياء والفقراء، فإنني أتساءل، هل يمكن أن يحدث شيء مشابه على مستوى أصحاب المهارات، أو على مستوى الوظائف السائدة؟ هل هناك في الأصل طبقات للموظفين، ولو كانت موجودة، كيف يجب أن تكون؟.
حتى تتضح الصورة، يمكننا النظر لهذه المسألة بأكثر من منظور، الأول ما يخص مستويات العرض، أي، الشباب والفتيات متقدمو ومتوسطو وقليلو المهارة. الثاني، الخاصية نفسها، لكن على مستوى الطلب: وظائف مرتفعة ومتوسطة ومتدنية المهارة. الثالث، يمكن كذلك النظر إلى الاحتياجات التوظيفية حسب مستوى الخبرة والتعقيد، مثلا وظائف مختصة تتطلب خبرة طويلة، وظائف شبه مختصة تتطلب خبرة متوسطة، وظائف غير مختصة ولا تتطلب خبرة. الرابع، على مستوى الوعي المهني، وليس المهارة تحديدا، مثلا: مجموعة ذات وعي مهني عال، مجموعة متوسطة الوعي المهني، ومجموعة متدنية الوعي المهني. هناك كثير من التداخل بين هذه الزوايا وغيرها من السمات التي قد تصنع الفوارق، لكني سأركز على التباين بين مستوى الوعي المهني كمثال لما يمكن أن يحدث في سوق العمل ويتأثر به الفرد والمنظمة والمجتمع.
عندما نتحدث عن الوعي المهني فنحن نتحدث عن جانب فكري وسلوكي ينشأ نتيجة للتربية والتعلم والاحتكاك بالمجتمع مع تأثير مباشر للسياسات المؤثرة في سوق العمل والظروف الاقتصادية والفرص العملية التي يحظى بها الفرد. إذا تحسنت ظروف هذا الخليط مع الوعي الذاتي أصبحت النتيجة ممتازة، إذا تواضعت وتواضع الوعي الذاتي كانت النتيجة متواضعة، وبينهما ما بينهما من درجات وفواصل. لهذا، من الطبيعي أن نرى تفاوتا في النتيجة وفقا لأي تفاوت في هذه المدخلات. مدينة صغيرة لا يتعلم أبناؤها بالشكل المطلوب أو لا يجدون مقر العمل المحترم الذي يحتويهم ستخرج بنسبة عالية من متواضعي الوعي المهني. بينما مدينة صغيرة أخرى تحظى بالوجود قريبا من مؤسسات تعليمية كبرى أو أماكن عمل جيدة "مصفاة كبرى على سبيل المثال" ستجد أن نسبة مرتفعي الوعي المهني من أبناء هذه المدينة عالية مقارنة بسابقتها.
قد يدل بعض المؤشرات على وجود نسق محدد لهذا التفاوت بين طبقات الوعي المهني، تتصاعد فيه فئة على حساب أخرى أو تختفي فيه فئة وتزيد أخرى. وأعني وجود فئة متميزة مهنيا، لديها وعي ذاتي مرتفع، مهارات عملية وتخطيطية جيدة، مهارات اجتماعية وعاطفية متفوقة، مع مداخيل مالية ممتازة. ومقابل ذلك: فئة ضعيفة إنتاجيا، بمهارات عملية وتخطيطية متواضعة، وضعف واضح في إدارة الذات وربما العواطف، ومداخيل مالية متواضعة. وبين هاتين الفئتين شبه غياب أو ندرة لمن يقع في المنتصف. وجود هذه الفئات طبيعي في كل مجتمع إلا أن توزيع هذه الفئات وتوازنها بشكل منطقي وعادل أمر مهم. هل يعني وجود عدد كبير من العلماء والمهنيين القديرين والمتفوقين مهاريا في شتى الممارسات والحائزين الإشادات والجوائز العالمية أمرا إيجابيا إذا قابلهم عدد أكبر من العاطلين أو العاجزين مهنيا؟ بالطبع لا. قد يقول قائل إنها مسألة وقت حتى تبلغ هذه الفئة الكتلة الحرجة التي تسمح لها بالتأثير الإيجابي المطلوب في كل ما يليها. إذا غابت الفئة الوسطى فهذا يعني كما هائلا من التشوهات العمالية والاقتصادية التي لا تنتهي، منافسة وظيفية غير عادلة، زيادة حدة التنافس على أصحاب المهارة وارتفاع تكلفة المهارة، غياب القوى العاملة المنتجة المؤثرة، زيادة الطلب الوظيفي من متدني المهارة، ضعف الادخار، ضعف القوة الشرائية وعدم توازنها، الحاجة إلى تعويض هذه التشوهات بالاستقطاب الخارجي أو توريد الخدمات أو البرامج الإصلاحية المكلفة وما إلى ذلك.
قد تصبح المشكلة أكثر تعقيدا إذا نظرنا لأكثر من منظور في الوقت نفسه، مثلا، قد ترفع المنظومة التعليمية والتدريبية من نسبة اليد العاملة الماهرة، وتصبح الفئات الأقل مهارة شبه منعدمة، لكن في الوقت نفسه، قد تتوسع فوارق الوعي المهني بين فئاته المختلفة رغم ارتفاع مستوى المهارة إجمالا. وهذا قد يحصل بسبب استمرار موجات البطالة بأسباب مختلفة وقد يؤدي إلى قرارات وظيفية خاطئة أو تفاوت كبير في الدخل. بعيدا عن ظروف ومعطيات سوق العمل والجوانب الاقتصادية، النظر إلى فرص الأفراد في الانتقال من مستوى إلى آخر في هذه الطبقات بناء على الفرص المتاحة قد يلفت انتباهنا إلى عديد من الأمور، من ضمنها عدالة توزيع هذه الفرص وإمكانية الارتقاء مهنيا بالوعي والإمكانات بناء على الجهد والمحاولة.
إنشرها