إخفاق النظريات الاقتصادية .. لا تفسيرات ولا حلول 

 
لقد كانت من أصعب المراحل التي مرت على تاريخ الاقتصاد العالمي هي تلك الفترات التي تكون فيها النظرية الاقتصادية غير قادرة على تقديم تفسيرات وحلول كافية للحالة الراهنة، ذلك أنها - أي النظرية الاقتصادية - لم تنظر هذه الحالة سابقا، ولا توجد نماذج رياضية تنبؤية كافية لتقدم دعما مناسبا لأصحاب القرار، وكانت هي الحال في فترات سابقة إبان فشل النظرية الكلاسيكية في تقديم تفسيرات وحلول لأزمة الكساد. كانت هذه الحال مع النظرية الكنزية إبان أزمات التضخم والبطالة، ويبدو أن الحالة الاقتصادية الراهنة اليوم لا تقل شأنا عن تلك الأزمات الكبيرة التي واجهت النظرية الاقتصادية نفسها، فالتراجعات الاقتصادية الحالية تختلف تماما عن أي ركود أو كساد شهده العالم في السابق، وأسباب البطالة اليوم ليست هي التي تم التنظير لها منذ عقود.

فالمشكلة تبدو مرتبطة بانسحاب الناس من النشاط الاقتصادي اليومي وتزامن ذلك مع قرارات الإغلاق الحكومي بسبب انتشار الجائحة. لكن هذا الانسحاب الطوعي ليس من باب عدم القدرة على الإنفاق أو عدم توافر النقد أو ندرة السلع، بل لظروف صحية قاهرة، تمنع الناس من ممارسة النشاط خارج المنزل. وهذا أوجد بيئة اقتصادية جديدة تماما، فالنشاط من داخل المنزل وفر تدفقات نقدية كبيرة للشركات التي تقدم خدماتها عن بعد مثل أمازون وشركات التقنية ذات الصلة، بينما تواجه الشركات التي تعمل مع نشاط الإنسان خارج المنزل فترة تشبه أزمة الكساد فعلا. هنا تبدو الحلول الاقتصادية المعتادة غير قادرة على تقديم حل، وهذا ما يؤيده عدد من الاقتصاديين في العالم من أن استخدام اللغة الاقتصادية التقليدية في وصف التراجع الاقتصادي الحالي، سيؤدي إلى الارتباك والغموض بشأن اختيار السياسات المناسبة للتعامل مع الأزمة.

وكما نعلم فإن جوهر النظام الاقتصادي التقليدي، وفقا للمفاهيم المعتمدة في العلوم الحديثة، هو ظاهرة مميزة للدول في مستوى منخفض من التنمية الاقتصادية. كما تعد المعايير الرئيسة لتصنيف الدول في هذه الفئة بمنزلة حصة كبيرة من الإنتاج اليدوي للأيدي العاملة، والعمليات التكنولوجية المنخفضة، وأنظمة الإدارة الاقتصادية التي عفا عليها الزمن بشكل عام. ويتم تمثيل جزء كبير من الوحدات الاقتصادية في مثل هذه الدول من خلال الأشكال التقليدية المجتمعية لتعزيز العمل. وهذا الوضع لم يسهم بشكل كلي في مواجهة تداعيات فيروس كورونا التي ضربت القطاعات والنشاطات التجارية كافة ما عطل مؤشرات حركة نمو الاقتصاد.

وما يراه هؤلاء الاقتصاديون مثل ميرفين كينج الذي يعمل أستاذا للاقتصاد في جامعات كامبريدج وبرمنجهام في بريطانيا وهارفارد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، أنه من غير المنطقي أن يتم تحفيز الإنفاق ببساطة لمعالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة وذلك وفقا للقواعد الاقتصادية المعهودة في مثل هذه الظروف أي ظروف التراجع الاقتصادي، فالمشكلة كما يراها كينج ليست في عدم قدرة المستهلكين على الإنفاق بل لأنهم يستطيعون ذلك، وفي هذه الحال فإن أي تحفيز اقتصادي من النوع التقليدي لن يقدم أي تأثير في الطلب طالما أن الناس غير قادرين على الخروج والشراء أو السفر للسياحة والترفيه. لذلك فالمطلوب هو ليس إطلاق إجراءات تحفيز عامة لتشجيع الطلب في الوقت الحالي، إنما دعم الشركات بما في ذلك المشاريع متناهية الصغر والصغيرة حتى تستطيع عبور الأزمة الحالية.

في ظل هذه النقاشات العالمية حول الاتجاهات الاقتصادية الصحيحة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي خلفها انتشار فيروس كورونا وباستقراء القرارات والأوامر الملكية منذ اللحظات الأولى للأزمة نجد أن الاقتصاد السعودي يسير في المسار الصحيح تماما، فما يشير إليه كبار المختصين حول العالم بضرورة دعم المنشآت الصغيرة والمتناهية في الصغر للبقاء في الأسواق فإنه قد تم تخصيص حزمة من 50 مليار ريال من أجل استمرار البنوك في دعم المنشآت لكيلا تضطر إلى الإغلاق، أو التخلص من الوظائف، كما تم إطلاق حزمة من الدعم للمحافظة على الوظائف تمثلت في قيام التأمينات الاجتماعية بدعم 75 في المائة من رواتب الموظفين في الشركات التي تعاني تقلصا حادا في التدفقات النقدية، كما تم تمديد العمل بهذه الإجراءات، حتى بعد رفع الإغلاق الكلي من أجل دعم المنشآت في مقابلة تحفظ المجتمع وكذلك الإجراءات الاحترازية التي قد تقلص من حجم الطلب الكلي. ويرى المختصون أن دولا عالمية كبرى قد أخفقت في إدراك أن الوظائف لا تعمل بسبب القيود التي فرضتها حكوماتها، وأن تمديد العمل بالدعم هو قرار صائب.

وبشأن الاقتصاد السعودي، فإنه على الرغم من أن حجم الدعم أقل من بعض الدول إلا أن نتائجه كانت أفضل بكثير، وهو ما حقق للسعودية ريادة اقتصادية في هذه الأزمة الحادة الجديدة، وهذه النتائج تمنحنا ثقة كبيرة باقتصادنا وأنه يسير على الطريق الصحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي