Author

منطق الشركات الخاسرة في سوق الأسهم

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
قبل أيام، صرح رئيس هيئة السوق المالية السعودية، بأن قال، "إن زيادة السيولة أمر إيجابي، إلا أننا لاحظنا تركزا للسيولة خلال الفترة الأخيرة في شركات وفي قطاعات معينة قد لا تتناسب مع ربحية هذه القطاعات أو أدائها، الأمر الذي لاحظنا معه زيادة في وتيرة السلوكيات المخالفة، ولهذا زادت الهيئة من كثافة عملياتها الرقابية، وهذا ما تم إعلانه". كما قال في السياق نفسه، ".. ما لاحظناه في بعض الشركات والقطاعات المضاربية، التي لا تتناسب سيولتها مع مستوى ربحيتها الحالية وتوقعاتها المستقبلية، خصوصا إذا كانت هذه السيولة والحركة بفعل فاعل، والعمل جار على رصد عدد من الاشتباهات في عدد من الحالات، تمهيدا لإحالتها للجهات المختصة"، انتهى.
وإذ أنتهز الفرصة كي أشكر رئيس هيئة السوق المالية على هذا التصريح النادر، وبهذه الشفافية العالية، التي أكد فيها ما كنت أكتبه طوال أعوام. هناك شركات مضاربة لا يمكن تفسير ما يحدث حولها بشكل اقتصادي يستند إلى مفاهيم الربحية والمؤشرات، ثم قوله إن بعض التحركات هي بفعل فاعل، ومعنى فعل فاعل هنا أن تلك التحركات ليست من قبيل التحليل الفني، ولا من قبيل التحليل الأساسي، ولا من قبيل قوى العرض والطلب الأساسية، إنما هناك يد خفية تعمل. لكن رغم الشفافية الكبيرة في هذا التصريح، فإن المفاجأة كانت كبيرة بالنسبة إلي على الأقل، خاصة في الأيام التي تلت التصريح، حيث أوردت "الاقتصادية" أن 23 في المائة من السيولة المتداولة في سوق الأسهم السعودية اتجهت إلى شركة واحدة فقط، وفي يوم واحد "بتاريخ بعد التصريح". ومن الصعب علميا أن نقول إن هذا قد جاء بفعل فاعل، ذلك أنه "أي الفاعل" سيكشف نفسه للهيئة بكل بساطة. لكني أعتقد أن سلوكيات المستثمرين والأسواق قد تغيرت، وما يحدث هو تعبير واضح من السوق عن رغبتها الجامحة في هذا النوع من الشركات التي تحقق عائدا كبيرا من النمو الرأسمالي في وقت قصير. فقد استطاعت هذه الشركة، وفي 12 جلسة فقط، أن تحلق بالنسب العليا. ولا يمكن لأي منا أن يلوم الناس على هذا الاندفاع، خاصة في اليوم الذي بلغت فيه السيولة 23 في المائة من السوق كلها، فمهما حدثتني عن المنطق الاقتصادي والتحليل الأساسي والمخاطر، فإن واقع السوق يقول إنها شركة آمنة، تحقق عوائد رأسمالية مذهلة في يوم واحد، ويمكنني الخروج منها في أي وقت لا يوجد احتمال لو 1 في المائة أنها ستنقضي أو تفلس أو تنهار فجأة، أو أن يتم تعليق سهمها، وإذا تآكل رأسمالها فإننا "أي المساهمون" سنبذل كل غال ونفيس كي تبقى في السوق، وسنقبل بفرح قرار تخفيض رأس المال وشطب الخسائر ومن ثم العودة إلى السوق والتعويض من جديد بالنمو الرأسمالي. إنها الجوكر، الشركة التي لا تخسر بلغة الاستثمار، إنها لغة معقدة جدا، لغة تشبه لغة عملة بيتكوين تماما، فقد حقق الذين فهموا هذه اللغة ضعف رأسمالهم في 12 جلسة فقط، بل حقق بعضهم ما يوازي 14 في المائة من الأرباح على رأس المال في جلسة واحدة. وفي نظري أن هناك أمرا واحدا فقط يفسر هذا السلوك اقتصاديا كما يفسره في عالم بيتكوين، كما وصفها رئيس هيئة السوق المالية بـ"الفاعل". إنها الندرة، فهذه الشركة تعد واحدة من أقل شركات السوق من حيث الأسهم الحرة "القابلة للتداول" بنحو 10.5 مليون سهم. وكما أن "بيتكوين" تمثل قرار المستثمرين وحدهم ولا غيرهم، فإن ما يحدث في هذه الشركة هو قرار المستثمرين وحدهم ولا غيرهم. ويبدو أن هيئة السوق المالية لا تملك أمام هذه الحرية سوى تأمل قرارات المستثمرين كلهم كنائب فاعل في هذه الجملة.
الأسواق تغيرت، والقواعد تغيرت تماما، خاصة أمام سطوة التنفيذيين في الشركات. لم يعد مقبولا عند المجتمعات أن نضع استثماراتنا في شركات عملاقة ذات حضور اقتصادي كبير، يركب رؤساؤها التنفيذيون طائرات خاصة، ويحصل أعضاء مجالس الإدارة على الملايين مكافآت، ومثلهم أعضاء اللجان، ثم تمنح المستثمرين هللات معدودة في الشهر. وليس من المنطق الاقتصادي، أن يحصل التنفيذيون في البنوك على الملايين رواتب وبدلات وخدمات ومكافآت تشجيعية، بينما يحصل أصحاب الودائع الادخارية على هللات في الشهر. كل هذا يحدث بينما هناك من نسميهم مقامرين يحصلون على عوائد رأسمالية بأضعاف دخلهم، فقط لأنهم استطاعوا تجاهل توصيات المحللين وأهل الاقتصاد وتركوا شركات العوائد للتنفيذيين، وعوائد الودائع لموظفي البنوك، وليبقى الحائرون أمثالي ينظرون بحسرة إلى معلقات كبار الاقتصاديين في كتب العلم وأوراق أبحاثهم. فعقلي يخبرني الآن بأن هذا كله صحيح اقتصاديا، وأن اليد الخفية، التي وصفها آدم سميث في ثروة الأمم "ووصفها رئيس هيئة السوق المالية بالفاعل"، تعمل، فالجميع يبحث عن مصلحته فقط، بغض النظر عن المثاليات. الأرباح تدعو الناس إليها كما هي تفعل منذ قرون، والكل منطقي تماما في هذه الصورة ما عدا من يبحث بين كل هذا عن مفاهيم منتصف القرن الماضي.
إنشرها