Author

لجنة المراجعة بين التأكيد المعقول والفحص النافي للجهالة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في اجتماع لمجلس إدارة بشأن إقرار الميزانية التقديرية، طلب رئيس المجلس إحالة الميزانية التقديرية للجنة المراجعة، ولقد كان هذا القرار محل نقاش، وفي خضم النقاش قال رئيس مجلس الإدارة: إن هذا الإجراء ضروري من أجل تنفيذ الفحص النافي للجهالة، Due Diligence، انتهى الاجتماع بذلك، لكن هذه العبارة تستحق النقاش فعلا، ليس من جانب دور لجنة المراجعة، بل حتى من جانب قيام مجلس الإدارة بهذا الأسلوب لفحص الميزانية التقديرية، أو أي موضوع آخر يتعلق بما ترفعه الإدارة التنفيذية. وحقيقة لا أخفي إعجابي بهذا القرار، ومستوى النضج الكبير فيه، ذلك أنه يقفز بمهام مجلس الإدارة وتحدياته إلى مستويات غير عادية ترتقي فعليا بمفاهيم الحوكمة، ودور مجلس الإدارة الرقابي، لكن الأهم من هذا كله هو ذلك الحس الكبير بالمخاطر عند مجلس الإدارة وأهمية تعامله بهذه الطريقة المستقلة مع ما ترفعه الإدارة التنفيذية من معلومات.
وقبل المضي بعيدا في المقال، فإن هناك مصطلحا شهيرا في فكر المراجعة ومن بينها الفكر الذي تعمل به لجان المراجعة، وهو التأكيد المعقول. من الصعب شرح التأكيد المعقول لكنه فقط ليس تأكيدا مطلقا، بمعنى أن المراجعين وبعد استخدام أساليب المراجعة ومناهجها لا يقدمون تأكيدا قاطعا بعدم وجود أخطاء أو احتيال، ذلك أن مثل هذه المهمة في مؤسسات ضخمة تتطلب وقتا طويلا وسيكون التأكيد بذلك في بيانات تاريخية فحسب، لكن المؤسسات مستمرة في العمل وتنتج وثائق وبيانات جديدة، وقد تكون البيانات الجديدة التي لم تتم مراجعتها تحمل خطأ، وإذا قلنا بوجوب مراجعتها قبل تقديم التأكيد فإننا أمام عملية لا نهائية، لتجدد البيانات عبر الزمن، ولهذا لا مفر من تحديد وقت معين وبيانات معنية للقول بدرجة معقولة، إنه لا يوجد خطأ ولا توجد مخالفات جسيمة. ودرجة معقولة تعني أن هذا التأكيد لا يكون مطلقا أبدا. فهل الفحص النافي للجهالة نوع من أنواع التأكيد أم هو أمر مختلف؟.
الفحص النافي للجهالة ليس من خدمات التأكيد Assurance، فهو ليس من أعمال المراجعة، لأنه ذلك الفحص الذي يقوم به شخص ذو خبرة ليس من أجل تأكيد صحة أو نفي المعلومات الواردة، بل هو فحص للمخاطر الاقتصادية التي يمكن أن تنتج عن اتخاذ قرار من تلك المعلومات. فهو فحص تحليلي للمعلومات، وبالتأكيد لا بد من أن يكون أول هم عند من يقوم بهذا الإجراء هو التحقق من صلاحية المعلومات، لكنه لا يفعل ذلك من جانبه مباشرة، بل قد يطلب خدمات المراجعين لأجل ضمان خلو المعلومات من الأخطاء والغش، وقد يقوم ببعض الفحص للدفاتر والسجلات، لكن ليس وفقا لأساليب ومناهج المراجعة، وهو يبحث في العلاقات بين البيانات ويفحص الأصول وغير ذلك من إجراءات بهدف تقييم مخاطر القرار الاقتصادي، خاصة عند قرارات ذات آثار مستقبلية مثل الاندماج أو السيطرة عموما.
فإذا كان هذا هو الفحص النافي للجهالة وهذه هي أعمال المراجعة باختصار، فلماذا تم توجيه لجنة المراجعة للقيام بالفحص النافي للجهالة وليس من أجل تقديم تأكيد حول عدم خلوها من الأخطاء؟ من الواضح أن الطلب كان من أجل فحص مخاطر القرار الاقتصادي الناجم عن تطبيق الميزانية التقديرية فعليا. فمن المؤكد في الأعوام الأخيرة أن المخاطر أصبحت هي المحرك الأساس للتفكير والقرار الاقتصادي في كل أنحاء العالم، ولقد شهدنا في هذا العام ما يثبت أن أولئك القادرين على فهم سلوك المخاطر وتقلباتها هم الأقدر على البقاء، ولم تعد عبارات مثل البقاء للأصلح أو الأقوى هي التي تفسر الصراع والمنافسة، هل هي القدرة على التكيف مع المخاطر مهما كنت صغيرا أو ضعيفا؟ وفي تجربة كورونا فإن من استطاع التكيف معها أو كان سابقا يعد العدة لمثل هذه الأوقات الصعبة سواء ماليا أو تقنيا نجده اليوم قد تجاوز الأزمة. هذا يعطينا مؤشرات كبيرة على أن التغيرات في الطلب على خدمات الحوكمة قد تختلف جذريا في العقد المقبل، فالمسألة لم تعد تتعلق بالحماية من تحيز القرار نحو المصالح الشخصية، بل هي حماية اقتصادية مطلقة، حماية من المخاطر بشتى أشكالها، وهذا حتما يرفع التحديات لمستويات غير مسبوقة.
وبالعودة للقرار الذي أراه صائبا ومميزا جدا، فمجلس الإدارة الذي يجتمع مرات معدودة في العام يراد منه اتخاذ قرارات ذات تأثير اقتصادي جوهري، وذلك دون القيام بمثل هذا الفحص المهم جدا لمخاطر القرار، وفي ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بالمؤسسة ومحيطها، فما كان مقبولا قبل عام أصبح اليوم محل نقاش، وما كان من السهولة إقرار الصرف عليه قبل عام، أصبح من غير المبرر ذلك اليوم، ومرة أخرى فإن المسألة ليست اختبار دقة التقديرات أو سلامة الإجراءات وعدم وجود تعارض في المصالح، بل هي دراسة عميقة للأثر الاقتصادي لها. وإذا كان هذا يبدو توسيعا لأعمال لجنة المراجعة، إلا أنه في صميم عملها إذا قلنا إنها هي المسؤولة عن المخاطر، أما إذا كانت هناك لجنة أخرى مختصة بالمخاطر في مجلس الإدارة، فإنني أراها هي المسؤولة عن ذلك. على أي حال فإن إجراءات فحص مخاطر القرارات الاقتصادية يجب أن تأخذ حيزا أكبر في أساليب وأعمال مجالس الإدارات، وعدم عد ذلك شيئا ملازما للخبرة المتوافرة في الأعضاء. فكما أشرت سابقا، فإن للمخاطر سلوكا وهي تتغير مع تغير العالم المحيط والتحديات، والبقاء فقط لأولئك القادرين على فهم سلوك المخاطر من حولهم وتجنب تأثيراتها السلبية.
إنشرها