سلمان بن عبدالعزيز .. التسامح تجاه الفرعيات والحزم تجاه الأساسيات
في كتابه "سلمان بن عبدالعزيز.. الجانب الآخر"، للمؤلف زين العابدين الركابي، يقارن بين شخصية الملك عبدالعزيز، ونجله الـ25، الذي ورث عن أبيه العظيم حظا موفورا من الخصائص والمواهب، كالذكاء المتوقد وسرعة البديهة، وقوة الإيمان، وقوة الذاكرة التي لا غنى عنها لكل قائد ناجح، وموهبة الانتظام في العمل وتقدير الوقت، لدرجة أن موظفي إمارة الرياض يضبطون ساعاتهم على وقت الحضور اليومي للأمير.. ومن الخصائص المشتركة المهمة أيضا، ذلك الشغف المعرفي والنزوع إلى تحقيق تنوع ثقافي متعدد المصادر، فالملك سلمان "الأمير في ذلك الوقت" يقرأ في الدين والتاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم الأنساب والاجتماع، وهو صديق صدوق للكتاب في السفر مثلما هو في المقام.
ويرصد الكتاب السمات للملك سلمان حينما كان أميرا للرياض، عهده بها المقربون منه، مثل المتابعة النشيطة والاطلاع المتجدد على الأحداث اليومية المحلية والعالمية، وذلك من خلال القراءة المباشرة للصحف، والاتصالات المباشرة، والزيارات والعلاقات الخارجية مع المنافذ السياسية والدبلوماسية المهمة، ومتابعة التقارير اليومية التي تقدم إليه يوميا باعتباره حاكما إداريا، تتم المتابعة كذلك من خلال مكتبه الخاص ذي النشاط الجم الذي يرصد كل شيء في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ويقدم عنه خلاصة وافية.
ويجتمع السلف والخلف على مبدأ بسيط ومهم في آن، وهو التسامح تجاه الفرعيات والحزم تجاه الأساسيات التي لا يقبل فيها صفحا ولا شفاعة وهي الدين وأمن الدولة وحقوق الناس ودماؤهم وأعراضهم.
عركته الحياة وتقلباتها
للعائلة شأن كبير في نفس الملك سلمان، وعرف عنه أيضا بره بوالديه، ففي كتاب "إنسانية ملك"، الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، يروي كاتبه الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الثنيان موقفا للابن سلمان مع والده الملك عبدالعزيز، حيث ذكر في مقدمة طبعته الثانية قصة لقائه آنذاك الأمير سلمان في عام 2011، الذي استحضر موقفا له مع والده ووالدته، فدمعت عيناه.
يروي الملك سلمان الموقف بقوله "في ذلك الأسبوع الذي توفي فيه الوالد، كان مقررا أن أتزوج بأم فهد، لكن حين اشتد المرض على الوالد رأيت تأجيل الزواج، وكان الوالد يصحو ويغيب، وذات مرة فتح عينيه ورأى الدتي بجواره، فسألها لماذا لم تذهبي لحفلة زواج الابن سلمان، فقالت له الوالدة إن سلمان أجل زواجه وامتنع عن إقامة حفلته إلى ما بعد شفائك، ألبسك الله الصحة والعافية، تقول الوالدة، أطرق الملك وتمتم بالدعاء، وفهمت منه قوله داعيا، الله يبارك في سلمان، الله يبارك في سلمان، وصارت أمي تؤمّن على دعائه".
كما يكن الإخوة لسلمان حبا جما، واحتراما وتقديرا ووفاء لا محدود، لا تكفي الكلمات وصفه، حاول أن يصف الأمير نايف - رحمه الله - أثناء ولايته العهد جانبا منها، وذلك في كلماته التي خطها في مقدمة كتاب "سلمان"، ويتناول سيرة أخيه الأمير سلمان، وجاء فيها "عركته الحياة وتقلباتها، فما زاده ذلك إلا توهجا وصفاء، ونهل من معين الوالد المؤسس - طيب الله ثراه - جميل الصفات، وعذب السجايا، وتميز بخصائص قل أن توجد في كثير من الرجال، أحب وطنه وتفانى في خدمته وخدمة ساكنيه، احترم كبيرهم، وتواضع لصغيرهم، وتجاوز عن مسيئهم، وقدر محسنهم، وقرب مخلصهم، ساس الأمور بحنكة وحكمة، واستشعر أهمية الوقت لقضاء حوائج الخلق، واستخدم فراسته ومعرفته لمعادن الرجال لاصطفاء من يوليه أمرا من أمور الناس، علم أن دعم القرآن وإغاثة الملهوف وذي الحاجة مما يُستجلب به رضا الخالق وسعادة المخلوق، وأن الإيثار والأخوة الحقة لا ينالان بالأماني، بل بالتضحية وإيثار الآخرين على الذات، ولعل موقفه مع شقيقيه الراحلين الملك فهد بن عبدالعزيز، والأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمهما الله - يجسد ذلك المعنى بأصدق صوره. علم أن سعة المعرفة سلاح الحاضر، فحرص على سعة الاطلاع والقراءة في مختلف العلوم، ولهذا وغيره مما اتصف به من حنكة، وحكمة ودراية فقد أصبح يمثل ركيزة أساسية من ركائز صنع القرار السعودي، وشريكا فاعلا يُستلهم منه الرأي الصائب، ولهذا فليس بمستغرب أن يدرك المقام السامي الكريم أنه خير من يخلف سلطان الخير - رحمه الله - في وزارة الدفاع".
أضخم مكتبة منزلية
عُرف عن الملك سلمان أنه واسع الثقافة، محب للقراءة، عاشق للتاريخ، قارئ من الطراز الرفيع، صديق للكتّاب والمثقفين والأدباء، حتى صنفت مكتبته الخاصة بأنها المكتبة المنزلية الأضخم التي يمتلكها زعيم أو رئيس دولة، بعناوين بلغت 27 ألفا، جاءت في 120 ألف مجلد، في شتى أنواع الفنون والمعرفة، حرص على فتحها للباحثين، بعد أن أصدر قرارا بتحويلها إلى مكتبة عامة ودعمها بكل التجهيزات لخدمة الباحثين، وفقا لحديث الدكتور فايز البدراني الباحث والمؤرخ، في ندوة نظمها نادي المدينة المنورة الأدبي قبل أعوام.
وقال البدراني "إن المخطوطات والوثائق النادرة لها نصيب وافر من عناية الملك سلمان، كما أن محتوياتها بالكامل بنظام المكتبات "ديوي"، ولحرصه على أن تكون هذه المكتبة القيمة في متناول الباحثين، أصدر توجيهاته بإنشاء مبنى يضم جميع محتويات هذه المكتبة، وفتح أبوابها للجميع، وتوفير كل الخدمات التي تسهل مهمة روادها".
ولعل هذه الخبرة التي اكتسبها من الكتب والتاريخ، أهلته لأن يشكل إضافة قيّمة لكل مؤسسة ثقافية تولى قيادتها، مثل دارة الملك عبدالعزيز، مركز حمد الجاسر الثقافي، جمعية المكتبات والمعلومات السعودية، مكتبة الملك فهد الوطنية، مركز تاريخ مكة، مركز بحوث المدينة المنورة، والجمعية التاريخية السعودية.
وفي الإطار ذاته، يوثق كتاب "سلمان بن عبدالعزيز راعي الجائزة والمنحة لدراسات تاريخ الجزيرة العربية" أن مشروع إنشاء مكتبة وطنية في الرياض هو فكرته، وأيده رجال أعمال، وأصبحت هذه المكتبة تحمل اسم "مكتبة الملك فهد الوطنية"، هدية أهالي الرياض للمملكة بمناسبة احتفائهم بتولي الملك فهد - رحمه الله - مقاليد الحكم.
وفي مناسبة أخرى للاحتفاء بعودة الأمير سلطان بن عبدالعزيز من رحلته العلاجية، وجه الأمير سلمان حينها بأن يكون احتفاء أهالي الرياض من خلال منجز ثقافي وعلمي جديد، وهو تأسيس جامعة باسم الأمير سلطان، تشرف عليها مؤسسة الرياض الخيرية للعلوم.
ولأن الثقافة السعودية حاضرة دائما في ذهن سلمان، عمل على نقلها والتعريف بها خارج حدود الوطن، من خلال فكرة معرض المملكة بين الأمس واليوم، الذي طاف عواصم العالم، ومنها واشنطن، لندن، مونتريال، باريس، الجزائر، القاهرة، وغيرها.
الطريقة السلمانية
لقربه من خادم الحرمين الشريفين، ابتكر الوزير والأديب الراحل غازي القصيبي - رحمه الله - مصطلحا خاصا بأسلوب قراءة الملك سلمان، سمّاه "الطريقة السلمانية"، يصف فيها طريقته في قراءة الخطابات، حيث تمر عليه معاملات من كل حدب وصوب، إلى إمارة منطقة الرياض التي يتولاها، ويقع تحت مسؤوليته ملايين المواطنين والمقيمين.
وذكر في كتابه "حياة في الإدارة" أن الطريقة بسيطة، تستند إلى حذف الملك سلمان مقدمة الخطاب ونهايته، والتركيز على لب الخطاب، ليعرف بحنكته المطلوب من النظرة الأولى، وقد أفادت تلك الطريقة القصيبي أثناء توليه وزارة الكهرباء، التي تنمي عادة القراءة السريعة، وتختصر الزمن، وهي عادة عرفت عن الملك سلمان، الذي كان يتابع كل شاردة وواردة، ويحرص على إنهاء معاملات المواطنين واستدعائهم لتجلي الموضوع إن تطلب الأمر، ويروي كذلك من عاصروه في الإمارة أنه دقيق في مواعيده، كان يدخل مكتبه قبل بدء الدوام الرسمي، ولا يغادر إلا متأخرا.
وقد روى القصيبي في لقاء تلفزيوني ذات مرة تفاصيل لقائه الملك سلمان "الأمير آنذاك" في الستينيات الميلادية، حيث التقاه في البحرين للمرة الأولى، وكان القصيبي في العشرينات من العمر، يعمل في لجنة السلام في اليمن، فتنبأ له الملك سلمان بأن يصبح وزيرا في يوم من الأيام، في إشارة إلى بُعد نظره ومعرفته بمعادن الرجال وكفاءاتهم.