Author

التعليم والتعلم .. قضية كل العصور

|
يكتسب التعلم بالتعليم، وقد يكتسب ذاتيا أيضا، خارج إطار التعليم النظامي المبرمج، وقد حفل تاريخ الإنسان بالأفكار في قضايا التعليم والتعلم، لتبقى الغاية المنشودة واحدة، عبر عنها أفلاطون Plato الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، بالقول: إن التعليم هو جزء من موضوع أكبر هو رفاهية المجتمع Well-being. ولعل المقصود هنا هو أن التعليم الذي يرتقي بمعارف الإنسان ومهاراته، يرتقي أيضا بالمجتمع اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، ويحقق له الرفاهية المنشودة. سنطرح في هذا المقال أفكارا في التعليم والتعلم تستحق اطلاع الجميع، خصوصا أننا في هذا العصر مطالبون جميعا بالتعلم مدى الحياة، فضلا عن حقيقة أن جميع الأسر ترتبط بالمدارس لأنهما الشريكان الرئيسان في تنمية الأجيال المتجددة.
هناك أفكار في التعليم والتعلم وردت في تقرير جاك ديلور Jacques Delors الصادر عام 1996، عن اللجنة الدولية حول التعليم في القرن الـ 21 التابعة لـ "اليونيسكو". ورغم أن التقرير مشهور باسم رئيس اللجنة ديلور، إلا أن اللجنة شملت 14 عضوا غيره. ولعل سبب ربط التقرير باسم رئيس اللجنة يعود إلى المناصب التي تقلدها قبل اللجنة، وأبرزها عمله رئيسا للمفوضية الأوروبية European Commission لمدة عشرة أعوام بين عامي 1985 و1995. ويتميز تقرير ديلور بطرح أربعة أعمدة للتعليم، وعد التعلم مدى الحياة ضرورة من ضرورات القرن الـ 21، إضافة إلى الربط بين الاثنين، أي: عد التعليم النظامي غير كاف للاستجابة لمتطلبات العصر.
تشمل أعمدة التعليم الأربعة: تعلم تلقي المعرفة To know، وتعلم تنفيذ الأعمال To do، وتعلم العيش المشترك To live together، وتعلم التميز الشخصي To be. يقضي عمود تعلم تلقي المعرفة بالاهتمام بالمعرفة العامة في شؤون الحياة ومعطياتها المتجددة من ناحية، وبالتركيز على المعرفة العميقة في مجالات محددة مختارة من ناحية ثانية. ويدعو هذا العمود، إضافة إلى ذلك، إلى العمل على الاستفادة من جميع المصادر والفرص المعرفية المتاحة، في إطار ما سبق. ولعل من المفيد في موضوع تلقي المعرفة والتأكد من صحتها، خصوصا عندما تفتقر مصادرها إلى الموثوقية الكاملة، العودة إلى فكرة نظرية المعرفة Epistemology في التأكد من المعرفة وبرهان صحتها، حيث ترتبط صحة أي معرفة بالبرهان العقلاني Rationalism، أو بالبرهان التجريبي Empiricism، أو بالاثنين معا.
وننتقل إلى العمود الثاني للتعليم الذي يركز على تنفيذ الأعمال، ويقضي باكتساب الإنسان مهارات عامة، وليس فقط مهارات العمل المهني الذي يؤديه. ويهتم إضافة إلى ذلك بمهارات العمل كفريق وليس فقط العمل المنفرد، فطبيعة الأعمال غالبا ما تكون جماعية أكثر من أن تكون فردية. وفي هذا المجال تبرز الأعمال الاجتماعية التي تحتاج إلى مهارات اجتماعية لا تكتسب بالتعليم النظامي، وإنما بالممارسة والخبرة، وربما ببعض الدورات الخاصة أيضا. ونأتي إلى العمود الثالث الخاص بالعيش المشترك، أي: القدرة على التفاهم مع الآخرين، ضمن بيئة من الاحترام المتبادل، إضافة إلى التمكن من حل الخلافات وتجنب الصراعات. ويكمل هذا العمود سابقه في جزئية تنفيذ الأعمال ضمن فرق عمل متفاهمة تؤدي واجباتها باقتدار.
ونصل إلى العمود الرابع للتعليم الذي يهتم بالتميز الشخصي، وهو أمر يتوافق مع فطرة الإنسان ورغبته في إبراز دوره في الحياة. في هذا المجال تبرز مسألتان، تتمثل الأولى في دور التعليم في تنمية شخصية الإنسان باتجاه التفكير الموضوعي السليم، والقدرة على تحليل مسببات المشكلات وتوقع آثارها، إضافة إلى تحمل المسؤولية، والسلوك الحسن. أما المسألة الأخرى فتتجلى في دور التعليم في التعرف على الإمكانات الخاصة للإنسان ومواهبه الفردية، ففي ذلك تأسيس لإطلاق هذه الإمكانات والمواهب، بما يعود بالنفع على أصحابها من جهة، وعلى المجتمع من جهة ثانية.
إضافة إلى أعمدة التعليم الأربعة سابقة الذكر، دعا تقرير ديلور إلى التعلم مدى الحياة، وعد ذلك أمرا أساسيا يجب الاهتمام به في القرن الـ 21، والسعي إلى الاستفادة من كل الإمكانات والفرص المتاحة لإيجاده، وإتاحته للجميع، وتفعيل دوره في المجتمع. وتشمل أمثلة إتاحة التعلم المستمر دورات تدريبية تستجيب لمتغيرات العصر وفرص العمل الجديدة، كما تتضمن أيضا دورات تناسب رغبة الناس في الاطلاع على المعارف واكتساب المهارات المختلفة، وقضاء وقت ممتع في تحقيق ذلك.
في مطلع الألفية الثالثة، وبعد إصدار تقرير ديلور بأعوام، اهتمت المفوضية الأوروبية بالتعلم مدى الحياة، وأصدرت عددا من التقارير في هذا الشأن. أعطت في أحد هذه التقارير أربع فوائد للتعلم مدى الحياة شملت: الرضا الذاتي، والتمكين الاجتماعي، والدعم الوظيفي، إضافة إلى المواطنة الصالحة. وفي تقرير آخر قدمت تعريفا جميلا للتعلم مدى الحياة يحمل في مضمونه توجها نحو هذه الفوائد. ويقول التعريف: إن التعلم مدى الحياة إجراء مستمر، يعزز شغف الفرد، ويفعل توجهاته نحو اكتساب: كل المعارف، والقيم، والمهارات التي يحتاج إليها في حياته، إضافة إلى العمل على تطبيقها بثقة، وإبداع، واستمتاع، في مختلف الظروف وفي إطار المناسبات والفرص التي تتطلب ذلك.
تستحق أفكار التعليم والتعلم، المستندة إلى تقرير ديلور المقدم إلى "اليونيسكو" اهتمام الجميع لأنها تخاطب الجميع، وتسعى إلى الاستجابة لتحديات القرن الـ 21. فأعمدتها الأربعة التي تقضي بتلقي المعرفة، وتنفيذ الأعمال، والعيش المشترك، إضافة إلى التميز الشخصي تعطي وصفة للنجاح، خصوصا أنها ترتبط أيضا بالدعوة إلى التعلم مدى الحياة، بما يسهم في تمكين المتعلم من تحديث معلوماته والارتقاء بإمكاناته، بشكل متواصل يواكب المتغيرات ويستجيب للمتطلبات. وقد اهتمت المفوضية الأوروبية بهذا الأمر، وأعطت أفكارا مفيدة بشأنه. وتبقى أفكار التعليم والتعلم كثيرة ومتجددة، هدفها الإنسان والارتقاء بإمكاناته، والمجتمع وتحقيق رفاهيته. والأمل أن يكون لنا دور متميز في التفاعل مع هذه الأفكار والإسهام فيها، وفي العمل على تنفيذها، وتحقيق الفوائد المرجوة منها، ولا شك أن التقنية الرقمية، في تجددها المستمر، تقدم الوسائل التي تستطيع الإسهام بفاعلية في التعلم وفي استمراره الدائم مدى الحياة.
إنشرها