«شجريان» رمز المعارضة الإيرانية .. المحاصر حيا والمحتفى به ميتا
«شجريان» رمز المعارضة الإيرانية .. المحاصر حيا والمحتفى به ميتا
غيّب الموت الموسيقار الإيراني الكبير محمد رضا شجريان، عن 80 عاما، يوم الخميس الماضي، بعد صراع مرير دام 15 عاما مع داء السرطان، مخلفا أجواء من الحزن العميق في الشارع الإيراني، بمجرد سماع نبأ وفاة أسطورة الغناء الإيراني. أطلق عليه الجمهور لقب "الأستاذ" باعتباره الوجه البارز في الموسيقى التقليدية والتراثية الإيرانية، طيلة نصف قرن، على مستوى التأليف والألحان والعزف والأداء، لدرجة أن وسائل إعلام إيرانية قارنت شعبيته بشعبية سيدة الطرب العربي أم كلثوم.
نشأ الرجل في محيط متدين، فهو ابن مقرئ، ما أثر في طفولته، حيث بدأ تلاوة القرآن في سن مبكرة، وكانت تلك التلاوة طريقه السالك نحو مايكروفون الإذاعة، سيرا على نهج والده، قبل أن تظهر مواهبه في الموسيقى شرع في تعلمها، في الـ12 من عمره، بعيدا عن علم والده.
كان في طفولته متأثرا بعمالقة الفن الفارسي، أمثال: قمر الملوك وزيري، وتاج أصفهاني، وجليل شاهناز، وغيرهم، ونجح في فرض نفسه بقدرته العجيبة على اختيار الكلمات، وأدائها الغنائي المبهر، وبرع في تلحين أشهر القصائد الكلاسيكية، منها قصائد لعمر الخيام، وسعدي الشيرازي، وجلال الدين الرومي، في إطار فولكلوري ومعرفي مستمد من الأدب الفارسي، كما غنى مقاطع بمضامين ورسائل سياسية.
أزعجت هذه الشعبية القائمين على شؤون النظام في طهران، خاصة بعد رفض الرجل أسلوب التدجين الذي ينهجه أصحاب العمائم، وإصراره الدائم على الحفاظ على مسافة أمان بين موسيقاه وبين النظام، فقد كان دائما في علاقة جدلية مع سلطات بلاده، سواء خلال فترة حكم الشاه، أو فيما بعد إقامة نظام الجمهورية الإسلامية عام 1979.
كان انحيازه إلى عموم أفراد الشعب سببا في استقالته من هيئة الإذاعة الإيرانية، بعد مسيرة امتدت لعقد من الزمن، في برنامج غنائي باسم مستعار "سياوش بيدكاني"، بعنوان "الأغصان الخضراء". فقد وجد نفسه مجبرا على المغادرة، انسجاما مع قناعاته ومبادئه، بعد أيام أحداث "الجمعة السوداء"؛ بتاريخ 8 أيلول (سبتمبر) 1978، تعبيرا عن إدانته مقتل متظاهرين ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي برصاص قوات الأمن في طهران. وفي ذروة الحراك الشعبي ضد حكم الشاه، ألغى حفلا موسيقيا في موسكو، احتجاجا على عمليات قمع المتظاهرين السلميين.
حاول شجريان الإبقاء على مسافة فاصلة عن الوضع الجديد، مبتعدا قدر المستطاع عن المرشد ومن يدور في فلكه. خاصة، بعد انتقاده اللاذع لإلباس الجمهورية طابعا إسلاميا متشددا على مقاس الخميني، وفي ذلك تعارض واضح مع فكرة الهوية الفارسية للإيرانيين، وكثيرا ما سعى الراحل إلى إبراز تلك الهوية، بتلحين وغناء أعمال شعراء فارسيين طبعوا مراحل من تاريخ البلاد الثقافي الغني، كالرومي والشيرازي.
تعرض الرجل طوال أعوام لمضايقات من جانب النظام، ثمنا لرفضه مسايرة جوقة المطبلين لجمهورية المرشد، تحول الأمر إلى اصطدام غير مباشر، بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، عقب إعادة تقطيع التلفزيون الرسمي لأغنية "حب الوطن"، واستخدامها في أغراض دعائية للنظام، بعث على أثرها برسالة إلى رئيس الشبكة، يطالبه فيها بوقف بث أعماله، مؤكدا أن "أغانيه الوطنية تنتمي إلى أعوام ما قبل ثورة 1979، ولا علاقة لها بأي حال بما يحدث في البلاد الآن"، وأجاز بث عملين، وبشكل حصري خلال شهر رمضان فقط، هما "مناجاة" و"ربنا".
وعدّ شجريان النظام يرغب في أن يجعل منه موسيقيا مدجنا، ليظهر سدنة المرشد للرأي العام من خلال أعماله، أن نظامهم "لا يعارض الموسيقى بشكل مطلق"، ووجه انتقادات شديدة إلى الطابع الديني المتشدد الذي يغرق فيه النظام المجتمع الإيراني. وعن قرار وقف موسيقاه في الإعلام، قال "كلما سمعت أغنياتي في الإذاعة والتلفزيون أحسست بالخجل، فأنا لا أريد أن تستغل موسيقاي لتبرير القمع".
دخل الموسيقار المتمرد على خط الصدام، بشكل مباشر هذه المرة، بتأييده مظاهرات "الحركة الخضراء" التي اندلعت على خلفية الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية في 2009، ليصبح من حينها رمزا للمعارضة في إيران، بعدما رد على تصريحات الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، ضد المحتجين، في حوار مع تلفزيون "بي بي سي"، بقوله "كان صوتي وسيظل صوت الحثالة"، في إشارة إلى وصف نجاد للمتظاهرين بأنهم حثالة.
نكاية في نجاد وإمعانا في رفض الاستغلال والتدجين، أنشد أغنية "زبان آتش"، وتعني باللغة العربية "لغة النار" لدعم الحركة الاحتجاجية، التي قمعها النظام بشدة لتعبيد الطريق أمام ولاية ثانية للرئيس، وتقول كلمات الأغنية "أنا أكره سفك الدماء، والمسدس الذي بيدك يتحدث لغة النار والحديد. ألق سلاحك جانبا، تعال واجلس، تحدث واسمع، فربما يصل نور الإنسانية إلى قلبك".
وصل أب الموسيقى الإيرانية إلى نقطة اللاعودة في اصطدامه بالنظام، حيث قررت الحكومة منعه من إقامة الحفلات الموسيقية، والتوزيع الرسمي لإصداراته الغنائية، لكن يبدو أن ذلك زاد من جاذبيته لدى الجمهور، وأسهم في تحقيق هدفه، حيث عدّ "أكبر إنجاز سياسي للفنانين الإيرانيين هو جعل الفن يكسب سمعة حسنة".
حاول النظام الإيراني تحقيق ما فشل فيه، حين كان الراحل على قيد الحياة، خلال وفاته، فالمنع والتضييق والحصار طيلة أعوام لم تحل دون استغلال رموز النظام جنازة الرجل، التي حظيت بمشاركة رسمية رفيعة، ونعاه عدد من كبار المسؤولين، بمن فيهم الرئيس الإيراني حسن روحاني، حتى وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي، المسؤول عن جهاز الرقابة على الأعمال الفنية والثقافية، أي الجهاز المكلف بحصار الراحل، كان في مقدمة من حضروا جنازته.
بهذا الحضور والاهتمام النوعي بالرجل يقوم النظام بخطوة استباقية لاحتكار إرث هذا الرمز الوطني، خوفا من استغلال لحظة الجنازة وتحويلها إلى رسالة معارضة للنظام، وكانت البداية الفعلية للأمر من أمام المستشفى، حيث هتف آلاف من محبي الأستاذ ضد التلفزيون، "عار علينا عار علينا تلفزيوننا"، وضد من سموه ديكتاتور النظام "خامنئي".