سوق الأسهم والحوكمة وهيئة مستقلة للجان المراجعة

في مقال الأسبوع الماضي، كتبت عن لجان المراجعة التي أصبحت خاضعة لضغوط الإدارة التنفيذية بسبب المكافآت، وتلقيت اتصالات عدة وتعليقات ثرية على المقال، وعلق الدكتور مريع هباش أستاذ الحوكمة في جامعة الملك خالد، على المقال، وتحفظ على أمرين معا، الأول أن يكون التأثير في اللجان من الرئيس التنفيذي، بل هو من الرئيس الأعلى "ولنسمه المسؤول الأعلى"، فقد يكون المساهم الأكبر أو رئيس مجلس الإدارة، حيث إنه الذي يعين الجميع فعليا. كما تحفظ على اختيار الأعضاء في اللجان من قبل جمعية مهنية مستقلة، ذلك أنه يأخذ الحق الشرعي من الجمعية العمومية للشركة، ويأخذ حق المساهم في التصويت ويمنحه للآخرين، وفي هذا تراجع في حوكمة الشركات وليس تحسنا، ذلك أن مفهوم الحوكمة في جوهره هو، منح أصحاب المصلحة حق اتخاذ القرار وليس أخذه منهم بأي حجة، فلا معنى لأن تكون المشكلات التي تواجهها الشركات السعودية الآن في تطبيق الحوكمة سببا في انحرف تطبيق الحوكمة عن فلسفته الأساسية، لكن الدكتور هباش، وفي نقاش ثري جدا وعميق للفكرة، يقر أن هناك مشكلة في دور المساهم في السوق السعودية وفي "صدق احتياجه إلى الحوكمة"، فالمتعاملون في السوق السعودية هم مضاربون ليس إلا، والمضارب قد لا يحتفظ بالسهم حتى مساء اليوم الذي اشتراه فيه، وفي ظل هذا التوجه، فإنه غير معني أساسا بالحوكمة، ولا باللجان ولا حتى بالأرباح، هو معني بشيء واحد فقط، ارتفاع سعر السهم في السوق بناء على الحركة الفنية للمضاربات.
وأقول: في بيئة اقتصادية بهذا الشكل، فإن النظريات التي فسرت قواعد الحوكمة، وفسرت وجود لجان المراجعة، لا تعمل، وقد نجد لجانا تسميها الشركات لجان المراجعة، لكننا إذا حاولنا قياس هذه اللجان في الدراسات والأبحاث، فلن نجد لها أثرها، وغياب أثر الشيء غياب له، أو قل عدم وجود الأثر قد يكون دليلا على العدم. إذن، ما اللجان التي نجدها في الهياكل التنظيمية، ونجدها في قواعد حوكمة الشركات التي لدى سوق المال؟ لقد سماها الدكتور هباش "الحوكمة الورقية"، وقد كتبت مقالات لا أحصيها الآن عن هذه الحوكمة الورقية، "مع احتفاظي للدكتور بحق نحت هذا المصطلح"، فمصطلح الحوكمة الورقية، يفسر لماذا لا نجد أثرا للحوكمة في أداء الشركات ولا في أسعار الأسهم، فهو يعني أنها مجرد كومة للأوراق النظامية، مثل لوائح مجلس الإدارة ولوائح اللجان التابعة للمجلس، ومن بينها لجنة الترشيحات، ووجود نظام للرقابة الداخلية وإجراءات مراجعة داخلية وميثاق للمراجعة ومراجع خارجي وآليات تعيينه، وغيرها من القواعد المعروفة، فهي أوراق أعدها مستشارون وكتبت بأفضل العبارات ولم يقرأها بعدهم أحد أبدا. هذه الأوراق التي تجعل إدارة الشركة تجيب على الاستبيان الخاص بالحوكمة ولديها كل الثقة بحكومتها الورقية.
في مقابل هذه الحزم من أوراق الحوكمة، نجد الاختلاسات في شركات كنا نعدها من ذوات الحوكمة، مؤسسات مالية ومصارف، شركات اتصال عملاقة، شركات زراعية، شركات صناعية، وفي هذه الشركات جميعها تجد تقارير المراجع الخارجي شديدة الصراحة بشأن التحفظ على قدرة الشركة على الاستمرار، ومع ذلك فلا تسمع للجنة المراجعة صوتا ولا ركزا، وإذا رأيت في هذه الشركة وأمعنت النظر، وجدت الخسائر في كل ركن، والمكافآت أيضا في كل زاوية، وسعر السهم يغرد خارج السرب، والعجب كل العجب أن المساهم سعيد بقرب زيادة رأس المال أو شطب الخسائر وإعادة السعر للتداول، لأن المضاربات ستكون محمومة بعد ذلك، فكيف يمكن للنظريات التي تعلمناها أعواما أن تفسر هذا السلوك.
مصطلح الحوكمة الورقية يفسر كثيرا وجود المراجع الداخلي ولجان المراجعة، وسيحمي الباحثين الغارقين في البحث عن علاقة بين طبيعة عمل لجان المراجعة، أو عن قياس أثر التركيز في تركيبة مجلس الإدارة على سلوك السهم، أو الباحثين في قياس إدارة الأرباح، ذلك أن مفهوم الحوكمة لدينا هو مجرد أوارق تقدم لهيئة سوق المال، لكن هيئة سوق المال لا تتخذ في مقابل هذه الحوكمة قرارات بشأن إيقاف التداول أو التداول خارج المنصة، أو نقل الشركة للتداول في منصة أخرى، كل تلك القرارات غير موجودة، لهذا لا آثر للحوكمة يمكن تتبعه. والشركات تتجنب غضب المساهمين، من خلال ضمان البقاء في سوق الأسهم الرئيسة وقوة المضاربات في سعر السهم، التي تعوض عن الخسائر في الأرباح، ذلك أن المساهم يريد نموا في رأسماله، وعلى الاقتصاديين أن يفسروه كيفما يشاؤون "رأسماليا كان أم عوائد"، فبالنسبة إلى المساهم لا فرق طالما لديه ثروة في نهاية اليوم.
إذن، فالطلب على قواعد الحوكمة وتطبيقاتها لم يعد مصدره المساهم أبدا، ولم تعد نظرية المنظمة ولا نظرية الوكالة، التي نعرفها تعمل في سوق الأسهم، وهذا ليس جيدا أبدا، ذلك أن التأثير في الاقتصاد الكلي ونمو الناتج المحلي، سيكون كبيرا في المستقبل، وستدفع الأجيال المقبلة ثمن هذا التلاعب الذي يقوم به هذا الجيل، ولا بد للفلاسفة المختصين في هذا البحر، من التدخل بنماذج جديدة لتصحح المسار، ولهذا ما زلت مصرا أن إنشاء مؤسسات مجتمع مدني مثل هيئة مختصة بلجان المراجعة "تأخذ تشريعا وتمويلا حكوميا"، تقوم هي بضمان استقلال اللجان وضمان عملها، فهذا أمر حيوي جدا للاقتصاد اليوم، ذلك أن مستوى عمل نظرية الوكالة أصبح أكبر من مساهم ومدير، بل هي نوع ما على شكل "مواطن - اقتصاد كلي - شركة"، فالموكل هو المواطن القلق على مستقبله وأسرته، ونحن المواطنين نريد أن نضمن أن أداء الشركات واستخدامها للموارد الاقتصادية المتاحة "كقروض وأراض وأموال عامة"، تسير وفقا لما يخدم الاقتصاد الكلي وليس ما يخدم مكافأة مجلس الإدارة ومضاربي سوق الأسهم. نعم، قد يكون في هذا الأنموذج نغمة اشتراكية، لكن حتى الولايات المتحدة، بعد أزمة 2008، أصبح لديها بعض من هذه النغمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي