الكويت تبكي أميرها الباسم .. داعية السلام
لم يكن رحيل أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مفجعا للشعب الكويتي وحده، بل شاطرهم الحزن والأسى كل العرب، الذين يكنون للفقيد مواقفه في توثيق الروابط الاقتصادية بين الكويت والشعوب العربية، وإيجاد حلول للخلافات والتهديدات التي يتعرض لها الوطن العربي، فكثيرا ما كان يؤكد أن التضامن العربي هو الوسيلة الوحيدة لاكتساب احترام الآخرين، ولمواجهة الأخطار التي يتعرضون لها.
كان الشيخ صباح الصباح الأمير الـ15 لدولة الكويت، والخامس بعد استقلال بلاده في عام 1961، قضى أربعة عقود في وزارة الخارجية، حتى لقب بشيخ الدبلوماسيين العرب، شهد خلالها أحداثا تاريخية كبرى في بلاده والعالم، حتى أكسبه وأكسب الكويت مكانة استثنائية لدى الشعوب.
محبة تاريخية تمتد إلى 130 عاما
يكن السعوديون للكويت وأهلها محبة عظيمة، تجذرت منذ قدم العلاقات بين البلدين، ففي الكويت أقام الملك عبدالعزيز، وحل ضيفا عليها قبيل استعادة الرياض عام 1902، وسعى إلى توثيق عرى هذه العلاقة المتينة، من خلال زياراته المتعددة إليها، والاتفاقيات الموقعة معها.
وسار على نهجه الملوك من بعده، حيث يوثق كتاب (ذاكرة الكويت)، الصادر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية في شباط (فبراير) 2014، لعلاقات قديمة بين الكويت والمملكة، منها ما وثقته صحيفة "أم القرى" من زيارات متبادلة بين حكام البلدين، وأبرزها زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز – رحمه الله – للكويت عام 1954، الذي قال خلال زيارته التاريخية: "لقد تربيت في الكويت وعشت فيها، ولي فيها ذكريات طيبة لا أنساها، ومهما حاولوا التفريق بيننا فلن ينالوا ذلك، لأننا إخوة متحابون".
وحرص خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز على استمرارية العلاقات الأخوية، والمتجذرة بين البلدين منذ أكثر من 13 عقدا، فزار الكويت بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد في كانون الأول (ديسمبر) 2016، واستقبله الكويتيون بحفاوة بالغة على المستويين الحكومي والشعبي، وكان قد زارها وليا للعهد حين ترأس وفد المملكة في اجتماع القمة العربية، وأميرا للرياض.
وكان الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الحريص على امتداد هذه الأخوة، من خلال زياراته للمملكة، التي تتم فيها مناقشة قضايا المنطقة، ومستجدات الأحداث، وسبل تطوير العلاقات الأخوية بين البلدين، وأثمرت عن موافقة مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة برئاسة الملك سلمان في ذي القعدة عام 1439هـ على محضر إنشاء مجلس التنسيق السعودي ــ الكويتي، وجاء الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ليجدد هذه العلاقات، بعدما زار الكويت في عام 2018 لبحث العلاقات الثنائية الوثيقة بين البلدين.
لم يحمل على العراقيين
لم يكن يوم 2 آب (أغسطس) 1990 يوما عاديا ففيه اجتاح العراق أراضي جاره الكويت، وفيه استعانت الكويت بالأشقاء والأصدقاء لتحريرها، وكان لجهود صباح الأحمد الصباح صدى عالمي، فقد حصل تأييد دولي لم يسبق له مثيل بعد كشفه لممارسات العراق على أرض وطنه، وكان من نتيجته أن أصدر مجلس الأمن قراره رقم 678 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 وغيرها من القرارات الحاسمة.
ولم يكن الفقيد يحمل على الشعوب التي أيدت العدوان على الكويت، فلم يربط بين مواقف الحكومات وشعوبها، كما بقي متعاطفا مع الشعب العراقي الذي جر إلى الحرب، وأكد أن الشعبين الكويتي والعراقي لا خصومة بينهما، بل قدم المساعدات الغذائية والإنسانية إلى اللاجئين العراقيين.
وفي هذا الصدد، علقت وكالة "بلومبيرج" الأمريكية على وفاة الشيخ صباح الأحمد بأنه كان دبلوماسيا محنكا حاول رأب الصدع الخليجي، وإعادة بناء العلاقات مع العراق.
أما المملكة، ففتحت قلبها وحدودها للكويتيين، قيادة وشعبا، ولها مواقف سياسية وعسكرية راسخة، لا يتسع المقام لذكرها.
الخطوة الكبرى.. خليجيا
كان للشيخ صباح دور بارز في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في أيار (مايو) 1981، الذي عده الخطوة الكبرى والمهمة، وعمل من خلال المجلس على حل مشكلة الحدود البرية والبحرية بين المملكة والكويت، بروح أخوية.
ويوثق كتاب "الشيخ صباح الأحمد الصباح" الصادر عن مركز البحوث والدراسات التاريخية، سيرة مضيئة للأمير الراحل في تنمية دول الخليج، منها دعمه للتنمية في الإمارات، ففي عام 1953 أرسلت الكويت بعثة للتعرف على الأوضاع الاجتماعية والتعليمية في الإمارات، وأثمرت عن إقامة المدارس والمستشفيات وغيرها من المؤسسات الاجتماعية والخدمية للإمارات، في وقت كانت فيه بعض مناطق الكويت لا تزال بحاجة إلى مثل هذه المؤسسات، وأخذت تزداد كثافة بعدما تقلد الشيخ صباح الأحمد وزارة الخارجية في عام 1963، وعهد إليه برئاسة اللجنة الدائمة لمساعدة الخليج العربي، واستطاع الشيخ صباح تعزيز المنح المقدمة، وامتد نشاطها من إمارات الخليج العربي إلى كل من اليمن، عُمان، السودان.
وتظهر الإحصائيات أنه حتى عام 1969 كان للكويت في الإمارات 43 مدرسة، يعمل فيها 850 مدرسا، تتولى الكويت دفع رواتبهم والإنفاق الكامل على هذه المدارس، فضلا عن إنشاء المستشفيات وبناء المساجد، تلبية لاحتياجات الإمارات، دون مقابل أو مصالح، وإنما محبة خالصة.
وحين احتلت إيران الجزر الثلاث الإماراتية، كان موقف الشيخ صباح الأحمد معارضا لما اتخذته إيران، وساند الإمارات في المفاوضات التي جرت بينها وبين إيران عام 1992، وناشدها من فوق منبر الأمم المتحدة بالتخلي عن استخدام القوة وإنهاء فرض سيادتها غير القانونية عليها، إيمانا بأن الحق لا بد أن يعود إلى أصحابه.
مع مصر والفلسطينيين قلبا وفعلا
كان للشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مواقف شجاعة وحازمة تجاه القضية الفلسطينية، فقد أكد في مناسبات عدة مساندة الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه العادلة، ونادى في المحافل الدولية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى بحقوق الفلسطينيين، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة.
ويسجل التاريخ أن الكويت إحدى أبرز الدول التي أفسحت المجال أمام الفلسطينيين للقدوم إليها عقب حرب 1948، ووفرت لهم فرص العمل والعيش فيها.
ورغم الفتور في العلاقات بعد حرب الخليج، إلا أن الكويت كانت داعما سياسيا واقتصاديا للفلسطينيين، ونفذت مشاريع إعادة الإعمار وإصلاح البنية التحتية في قطاع غزة، فضلا عن المساهمة في تنفيذ مشاريع بناء وترميم مساجد ومدارس، ومساعدات نقدية عاجلة لأصحاب البيوت التي دمرت بشكل كامل خلال الحروب الثلاثة على غزة (2008، 2012، 2014)، وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية للجرحى.
أما العلاقات المصرية ـــ الكويتية، فكانت في أوجها خلال تولي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مقاليد الحكم، فكان – رحمه الله - يؤكد دائما أنه الداعم الأول لمصر.
وكان آخر تصريح له عن مصر أثناء استقباله وزير الخارجية المصري سامح شكري، وتناولا آخر المستجدات المتعلقة بمسار مفاوضات سد النهضة، حيث أكد الشيخ صباح وقوف الكويت مع مصر في كل ما يصون المصالح المصرية ويحفظ حقوقها وأمنها المائي، بما في ذلك دعم بلاده لمصر في ملف سد النهضة.
ولم تقتصر علاقات الكويت ومصر على الزيارات الرسمية، وإنما كان للجانب الاقتصادي محور منها، حيث أعلنت الكويت عام 2013 تقديمها حزمة من المساعدات الاقتصادية لمصر، التي قدرت بأربعة مليارات دولار، كما كان للصندوق الكويتي للتنمية دور في دعم المشاريع المصرية، وأبرزها تطوير قناة السويس وتوصيل مياه نهر النيل إلى سيناء.
وحدة اليمن
في اليمن كان للكويت دور تاريخي في إرساء الاستقرار فيها، بعدما شارك الشيخ صباح الأحمد في اللقاء الذي نظمته أحزاب اليمن في الستينيات، وحينما تدهورت العلاقات بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية وبدأت الصدامات بينهما على الحدود المشتركة عام 1972، بادر الشيخ صباح إلى بذل جهوده الدبلوماسية لإيقافها، وأسفرت زيارته في تشرين الأول (أكتوبر) 1972 عن توقيع اتفاقية سلام.
وكانت له وساطة ناجحة في الأزمة التي احتدمت بين اليمن وعُمان في عام 1980، وأسفرت عن توقيع اتفاقية خاصة بإعلان المبادئ، التي خففت التوتر بينهما، تلتها دعوته وزيري خارجية البلدين إلى اجتماع في الكويت عام 1984، اتفق الطرفان خلاله على إنهاء الحرب الإعلامية، وإقامة علاقات دبلوماسية، كما واصل سعيه الحثيث إلى تحقيق الوحدة بين شطري اليمن، من خلال زياراته إلى الطرفين.
واستكمالا لدور السلام الشجاع الذي يؤديه الأمير الراحل، أطلقت الكويت في نيسان (أبريل) 2016 مبادرة لاستضافة مباحثات السلام اليمنية، برعاية الأمم المتحدة، ووساطة الأمير بشكل مباشر لضمان نجاحها.
وساطات لحل الأزمات
كان الشيخ صباح الأحمد يرى أن الكويت يجب أن تكون عنوانا للسلام، ووساطاته امتدت إلى الأزمات الإقليمية والدولية، مثل جهوده من أجل حل الخلاف بين العراق وإيران في عام 1969 فيما يتعلق بمشكلة السيادة على شط العرب، وترأسه وفد منظمة المؤتمر الإسلامي لحل النزاع بين باكستان وإقليم البنغال، وانتهت بقيام دولة بنجلادش، وكذلك الوساطة بين تركيا وبلغاريا، بعدما دعا وزيري خارجية البلدين عام 1989 إلى حل مشكلة الأقليات الإسلامية التركية في بلغاريا.
كان الشيخ صباح يتألم لما يحدث للمسلمين على أيدي الصرب في البوسنة والهرسك، كما عارض توغل السوفيات في أفغانستان، وكانت له مواقف مشرفة في هذا الصدد، وأسهم في حل الصراع المسلح الذي نشب بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، فالراحل لم يكن يفوت أي فرصة للاجتماع بأشقائه العرب، بحثا عن الحلول السلمية، وحقنا للدماء، والتوسط للم الشمل.
وفي لبنان، يسجل التاريخ أن الشيخ صباح كان الداعم الحقيقي للمواقف المعتدلة على الأصعدة كافة، والباحث عن حلول عادلة للأزمات العربية والدولية، المحب للسلام، ومنها موقفه من الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975، حيث دعا إلى الوساطة بين القوى التي كادت أن تقسم البلاد إلى دويلات.
إشادة بمبادراته الإنسانية
لم يكن تكريم منظمة الأمم المتحدة للشيخ صباح الجابر الصباح في 9 أيلول (سبتمبر) 2014 محض مصادفة، خصوصا بعد تسمية الكويت "مركزا للعمل الإنساني"، تقديرا من المنظمة الدولية لجهودها وأميرها في خدمة الإنسانية.
فمن أهم مبادرات الفقيد، تبرعه في القمة الثالثة لمنظمة أوبك التي عقدت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 في الرياض بمبلغ 150 مليون دولار لدعم برنامج يمول البحوث العلمية المتصلة بالطاقة والبيئة والتغير المناخي، ودوره في إنشاء الكويت صندوق الحياة الكريمة في أيار (مايو) 2008، حيث أسهمت الكويت بمبلغ 100 مليون دولار في هذا الصندوق لمواجهة الانعكاسات السلبية لأزمة الغذاء العالمية على الدول، وتبرع عام 2014 بـ500 مليون دولار، لإغاثة الشعب السوري الذي يعاني ويلات الحرب الأهلية.
وكانت للشيخ صباح مبادرة مهمة خلال مؤتمر القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية في كانون الثاني (يناير) 2009، حينما أطلق مبادرة دعم وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة برأسمال قدره مليارا دولار.