قصور عالمي في تطوير اللقاحات

يدرك الجميع أهمية الوقاية من الأمراض، وأنها أرخص وأقل ألما من المرض، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج. وسعت البشرية منذ القدم إلى تطوير أساليب الوقاية، وخصوصا من الأوبئة التي تعصف فجأة بالمجتمعات. وكان انتشار الأوبئة محصورا في مناطق جغرافية معينة في الأيام الخوالي، لكن التطور التقني، وخصوصا في مجالات المواصلات وسياسات العولمة، ساعد على انتشار الأوبئة حول العالم، ويسر تفشيها بسرعة عبر المناطق الجغرافية. وأثبت انتشار جائحة كورونا المستجد عجز معظم دول العالم في وقف انتشارها على الرغم من الإجراءات الصارمة. لهذا تلعب سياسات الوقاية من الأوبئة، وفي مقدمتها تطوير اللقاحات، دورا أساسيا في خفض تكاليف الأوبئة على الحياة البشرية والأحوال المعيشية.
لا تنحصر منافع اللقاحات في إنقاذ المرضى وتوفير التكاليف الصحية لعلاج الأمراض، وإنما تشمل الحد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية التي تتسبب فيها والشلل الذي قد يصيب مجالات متعددة في دول العالم. وأثبتت الجائحة الأخيرة أن جهود العالم في تطوير اللقاحات تنقصها الموارد والكفاءة والسرعة في الابتكار والتصميم والإنتاج والتوزيع. ويعتمد النموذج العالمي الحالي في تطوير اللقاحات على الأسواق والمنتجين الخاصين المدفوعين بالربح. وحقق هذا النموذج نجاحات متعددة في تطوير لقاحات لكثير من الأمراض واسعة الانتشار في الدول ميسورة الحال التي تدر أرباحا جيدة على شركات الأدوية. في المقابل، فشل هذا النموذج في تطوير لقاحات للأمراض محدودة أو محتملة الانتشار والأمراض التي تعيث في كثير من الدول النامية.
يتطلب تطوير اللقاحات توافر موارد مالية كبيرة، كما يستغرق وقتا طويلا في معظم الأحيان، واحتمالات فشل، ما يرفع مخاطره على المطورين. تذكر بعض المصادر أن تكاليف تطوير اللقاح في مراحله المختلفة قد تصل أو تتجاوز 500 مليون دولار، كما قد تفوق تكاليف تصنيعه المليار دولار، وقد يستغرق تطويره ووصوله إلى السكان عشرة أعوام. وقد يفشل كثير من الشركات في تطوير لقاح آمن لأمراض معينة أو تواجه منافسة شديدة من مطورين آخرين ما يخفض من الطلب عليه وقد يعرضها للخسائر. لهذا يحجم معظم الشركات عن تطوير اللقاحات إلا إذا كانت توقعات منافعه مرتفعة، كما هو الحال في جائحة كورونا المستجد. ومن المتوقع أن يدر تطوير لقاح آمن لكورونا المستجد مليارات كثيرة، ما حدا بأكثر من 130 كيانا إلى محاولة تطويره. وقاد الاعتماد على الأسواق في تطوير اللقاحات إلى فشل في تطوير اللقاحات لعديد من الأمراض بسبب إحجام الشركات العالمية عن الاستثمار في لقاحات بعض الأمراض كمرضي سارس وكورونا الشرق الأوسط لانحسار مخاطرهما في نطاق جغرافي محدود. وهناك قصور واضح في جهود تطوير لقاح مرض الإيبولا الأشد خطرا بمراحل من كورونا المستجد، بسبب انحسار حالاته في دول منخفضة الدخل.
يواجه مطورو اللقاحات مخاطر في توفير التمويل ما يحد من فرص تطوير اللقاحات. ويمكن - وفق معايير وآليات مناسبة - للحكومات أن توفر ضمانات تمويل لتطوير وإنتاج لقاحات أمراض معينة للحد من إحجام الشركات عن تطوير اللقاحات. ويدعم بعض المؤسسات الخيرية العالمية الكبيرة جهود تطوير اللقاحات، ولكنها غير كافية لمواجهة متطلبات تمويل عديد من لقاحات الأمراض. إضافة إلى ذلك، يحتاج العالم إلى جهود وآليات جماعية لتطوير اللقاحات وتسريع إنتاجها وتوزيعها. وتفيد بعض المصادر بأن وصول السكان إلى اللقاحات المطورة قد يستغرق خمسة إلى ستة أعوام بعد منح تراخيص إنتاج اللقاحات.
أظهرت الجائحة الأخيرة مجددا - على الرغم من أنها ليست بخطورة بعض الأوبئة كإيبولا - التكاليف المرتفعة لانتشار الجوائح، كما أظهرت عيوب المنظمات الصحية الوطنية والعالمية، والقصور الواضح في التعاون العالمي لمواجهة الأوبئة وإنتاج الأدوية واللقاحات. إن مواجهة تحديات الأوبئة الحالية والمستقبلية تتطلب مزيدا من التنسيق العالمي وتخصيص الموارد لأبحاث تطوير اللقاحات سواء من القطاع الخاص أو القطاع العام على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية. كما يحتاج العالم إلى تركيز متزايد من قبل المؤسسات العامة والخيرية على تطوير التقنيات الجديدة في إنتاج اللقاحات وتسريع اختبارات سلامة اللقاحات في أزمنة الأوبئة والجوائح.
تتخصص منظمة الصحة العالمية في المجالات الصحية العالمية لتنسيق التعاون العالمي في المجالات الصحية والتحذير من الأوبئة وفي مساعدة وتقديم الدعم الصحي والفني للدول الأشد احتياجا. وتعرضت المنظمة أخيرا إلى وابل من الانتقادات بسبب جائحة كورونا، ولكن مواردها وصلاحياتها بالنسبة للمهام المكلفة بها محدودة. إن ميزانية المنظمة أقل من ميزانيات عديد من شركات الأدوية العالمية، كما أن عليها - حالها مثل حال باقي المنظمات الأممية والإقليمية - الالتزام بالتوازنات السياسية بين دول العالم لضمان تلقي الاشتراكات المالية السنوية، ما قد يتسبب في كيل التهم لها بالانحياز إلى طرف معين من الأطراف الدولية. وتحتاج المنظمة إلى مزيد من التطوير والصلاحيات والموارد لزيادة فاعليتها لمواجهة التحديات المستقبلية، كما يمكن النظر في تطوير منظمات أخرى داعمة لجهودها أو حتى بحث إمكانية تأسيس شركات عالمية غير ربحية تدعمها الحكومات والمؤسسات الخيرية هدفها تطوير اللقاحات وتوزيعها بشكل عادل على مستوى العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي