محاربو الفقر والمشاريع الخيرية «2 من 3»

تصف دوفلو التجارب العشوائية التي يجريها المعمل كجزء من النهج الخاص به بأنها تساعد على تفكيك المشكلة الكبيرة إلى أجزاء يسهل التعامل معها، ومسائل أصغر يمكن إيجاد حلول دقيقة لها. ودوفلو اقتصادية فرنسية تبلغ من العمر 47 عاما، وحصلت على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، وخالفت المؤسسة قواعدها التي تمنع تعيين الطلاب من أجل انضمام دوفلو إلى صفوف العاملين بها.
وتقوم هذه الطريقة على اختبار حل محتمل لإحدى المشكلات الإنمائية - مثل مشكلة كيفية زيادة استخدام ناموسيات الأسرّة لمكافحة الملاريا - من خلال مقارنة مجموعة استفادت من الحل بمجموعة أخرى لم تقدم لها أي حلول. وينبغي أن تكون المجموعات متماثلة قدر الإمكان ومختارة بشكل عشوائي لضمان عدم وجود أي عوامل مؤثرة أخرى، حيث يمكن للباحثين فهم تأثير هذا الحل. ويمكن تشكيل مجموعات متعددة لمقارنة حلول مختلفة. وتم استحداث هذه التجارب في القرن الـ 19، وتم تطبيقها في مجالات الزراعة والطب والعلوم السياسية قبل استخدامها في مجال الاقتصاد بفترة طويلة، حيث استخدمت للمرة الأولى في سياق الدراسات الاقتصادية بدءا من الستينيات.
وغالبا ما تتطرق البحوث الاقتصادية الكلية إلى موضوعات صعبة يتم التعبير عنها بمعادلات معقدة واختبارها باستخدام أساليب الاقتصاد القياسي المتطورة التي يصعب على الفائزين بجائزة نوبل فهم بعضها. وفي كتاب دوفلو وبانيرجي الصادر عام 2019 بعنوان Good Economics for Hard Times، أقرا بأن جزءا من نمو الإنتاجية "لا يمكن عزوه إلى تغير العوامل التي يمكن للاقتصاديين قياسها. حتى يشعر الاقتصاديون بالرضا عن أنفسهم، استحدثوا مسمى الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج لوصف هذا الجزء تحديدا". وعرف روبرت سولو، وهو زميل لهم في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا وحاصل أيضا على جائزة نوبل، هذا المفهوم بأنه "مقياس لجهلنا".
في المقابل، تعد البحوث الإنمائية بسيطة ومباشرة. هل ينبغي التبرع بناموسيات الأسرّة لمكافحة الملاريا في كينيا، أم عرضها بأسعار مدعمة، أم بيعها بأسعار السوق؟ هل من المجدي تنفيذ برنامج إعادة شراء لسحب الكميات الكبيرة من حبوب الأفيون غير المستخدمة في الولايات المتحدة؟ كيف يمكن التأكد من حصول جميع الأسر الفقيرة في إندونيسيا على حصتها من الأرز في ظل برنامج فيدرالي مخصص لهذا الغرض؟
هذه هي المسائل التي عكف معمل عبداللطيف جميل على دراستها. وغالبا ما يتوصل الباحثون إلى حلول غاية في البساطة.
ويعد برنامج الأرز من أجل الفقراء من أكبر برامج المساعدة الاجتماعية في إندونيسيا، ويطلق عليه المحليون اسم راسكين. وتبلغ تكلفة البرنامج السنوية 1.5 مليار دولار، ويهدف إلى توزيع 15 كيلو جراما من الأرز شهريا على الأسر الأكثر فقرا بخمس السعر السوقي. غير أن البيروقراطية والفساد فرضا معوقات أمام تنفيذ البرنامج. فقد كان يحدث في الأغلب تلاعب في الأسعار والحصص ومعايير الاستحقاق من جانب القيادات المحلية المسؤولة عن توزيع الأرز، ما أدى في نهاية المطاف إلى حصول الأسر المستحقة على ثلث حصتها بتكلفة تزيد بنسبة 40 في المائة على التكلفة المقررة.
وبدلا من تشديد الضوابط الرقابية، كلفت إندونيسيا في عام 2012 مجموعة من الباحثين بالعمل مع معمل عبداللطيف جميل لاختبار مجموعة من الوسائل للتوعية بمعايير الاستحقاق والحصص الشهرية والأسعار باستخدام "بطاقات حماية اجتماعية" تتضمن هذه المعلومات. وأثبتت الاختبارات العشوائية فعالية هذه البطاقات، ما دفع الحكومة إلى إصدار 15 مليون بطاقة في عام واحد ودمجت برنامجين للتحويلات النقدية في إطار المشروع بلغت قيمتهما الإجمالية أربعة مليارات دولار.
ويتوقع النهج المستخدم لدى معمل عبداللطيف جميل، وجود فروق بين النظرية والواقع، وهو من مميزات هذا النهج، فضلا عن أنه لا يفترض أن العلماء المدربين يتمتعون بقدر أكبر من الحكمة أو العقلانية مقارنة بالشعوب التي يأملون في مساعدتها.
وفي كتابهما Poor Economics الصادر عام 2011، كتب بانيرجي ودوفلو أن "الفقراء ليسوا أقل عقلانية عمن سواهم، بل العكس هو الصحيح. فهم يمتلكون قليلا للغاية، وذلك تحديدا ما يجعلهم أكثر دقة في اختياراتهم غالبا: فكل منهم يجب أن يكون اقتصاديا نابها حتى يستطيع البقاء على قيد الحياة".
وبانرجی الذي ولد في مومباي عام 1961 لوالدين من أساتذة الاقتصاد البارزين، والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد ينفد صبره عند التعامل مع الإنسان العقلاني الذي يعيش داخل النماذج. وهو يتحدث ساخرا عن افتراض المعرفة الملازم لكثير من البحوث الاقتصادية الكلية، وينشأ غالبا عن عوامل لا تعدو كونها "مجموعة من الارتباطات التي يصعب تفسير عديد منها، وبعض الحقائق الفعلية الملموسة التي قد يمكن الاعتماد عليها بدرجة معقولة". وتحدث بانيرجي مع مجلة التمويل والتنمية من مكتبه الصغير في قسم الاقتصاد في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا. وخلف بابه الذي تكسوه صور كرتونية عن الاقتصاد والسياسة، يقبع حيز ضيق يعج بالكتب يتناقض مع رحابة نهر تشارلز وسماء مدينة بوسطن.
ويشغل مكتب دوفلو حيزا أوسع على مسافة مكتبين من مكتب بانيرجي. وقد التقيا عام 1999، حيث أشرف بانيرجي على دوفلو في أثناء دراستها درجة الدكتوراه في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، وتزوجا عام 2015، ورزقا بطفلين.
وتعلمت دوفلو ألا تشعر بالإحباط بسبب النتائج البحثية. وتقول "تعلمنا في وقت مبكر للغاية أن نتائج التجارب العشوائية المقارنة عادة ما تكون مفاجئة". إن تفكيك المشكلة الكبيرة لا يعني بالضرورة أن الأجزاء الأصغر أكثر بساطة. ففي محاضرة ألقتها دوفلو في صندوق النقد الدولي عام 2016، عرضت عددا من الدراسات التي تثبت أن التدخلات الجزئية يمكن أن تكون لها آثار كلية كبيرة. وناقشت إحدى هذه الدراسات كيفية تحسين إنفاذ القواعد البيئية في مصانع النسيج التي تتسبب في قدر كبير من التلوث في ولاية جوجارات في الهند التي تضم عددا من أكثر المدن تلوثا على مستوى العالم. وأدت التجربة العشوائية إلى تعديل قواعد توزيع المدققين على الشركات، وتوصلت إلى تحسن مستويات الإنفاذ عندما تم منع صرف مكافآت المفتشين من الشركات التي كانوا يقومون بتدقيق أوضاعها. ورغم أن هذه النتيجة ليست بجديدة، فإن توافر البيانات التي تثبتها أسهم في دعمها وتأكيدها... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي