Author

منظومة الكتابة بين الحدود العلمية والإبداعات الأدبية

|
الكتابة هي تفكير على الورق كما يقول الكاتب وليم زينسر William Zinsser، ولعلها الآن على شاشات الحواسيب وليست على الورق، لكنها تنطلق من التفكير، مهما كان موضوعها علميا كان أو أدبيا. وتتميز الكتابة عن الحديث، بأنها تستند إلى فكر أكثر عمقا، كما ذكرنا في مقال سابق. فالحديث يتم في بيئة تفاعلية ويحتاج إلى استجابات فورية، لذا فهو ينتج عن تفكير سريع، ما لم تكن الأفكار المطروحة معدة، وجرى التفكير الأكثر عمقا فيها مسبقا. أما الكتابة فلا تتقيد بالبيئة التفاعلية، وغالبا ما تتمتع بفسحة من الزمن، حيث يجعلها ذلك قادرة على الاستناد إلى تفكير أكثر عمقا.
إذا نظرنا إلى التفكير المطلوب للكتابة العلمية نراه يختلف عن التفكير المطلوب للكتابة الأدبية بعوامل عدة ترتبط بالاختلاف بين مؤثرات البيئة العلمية في التفكير من جهة، ومؤثرات البيئة الأدبية فيه من جهة أخرى، أي: إن منظومة التفكير في المجال العلمي تختلف عن تلك في المجال الأدبي، ولو أن التفكير الأكثر عمقا هو قاسم مشترك بين الاثنتين. فبيئة الكتابة الأدبية هي بيئة مشاعر تتأثر بحقائق الحياة، وبالذات ما يرتبط منها بحياة الإنسان الاجتماعية. وتقوم هذه البيئة من خلال ذلك بتحفيز خيالات الإنسان على إطلاق أفكار ترسمها الكتابة بأساليب مختلفة، تعطي صورا للحياة، تؤثر في القارئ ليرى فيها قيمة معنوية تدغدغ مشاعره، وتوسع مدى رؤيته لمشهد الحياة أمامه.
أما بيئة الكتابة العلمية فهي بيئة بحث عن حقائق الحياة، وبالذات حقائق الطبيعة، والسعي إلى فهمها والتحقق منها بأساليب تجريبية تستند إلى أفكار علمية متجددة، أو ربما عبر محاكمة فكرية منطقية تطلق أفكارا ونظريات للتعبير عنها ويضاف إلى ذلك البحث عن أفكار جديدة أو متجددة أخرى للاستفادة من هذه الحقائق وتسخيرها لخدمة الإنسان بأعلى درجة ممكنة من الفاعلية والكفاءة. وفي مجال البحث عن مثل هذه الأفكار، يدخل خيال الإنسان كوسيلة تعين على استنباطها، فخيال الإنسان وسيلة للتفكير في كل من الكتابتين الأدبية والعلمية. لكن قيود هذا الخيال تتأثر بعوامل حقائق الواقع في الكتابة العلمية، وفي المقابل تكون أكثر تحررا من هذه العوامل مع الكتابة الأدبية. فإثبات ما يصل إليه الخيال مطلوب في الكتابة العلمية، لكن الأمر ليس كذلك مع الكتابة الأدبية.
بعد ما سبق، لعلنا نحاول الآن الاقتراب أكثر من كل من الكتابتين الأدبية والعلمية. إذا بدأنا بالكتابة الأدبية، يمكن أن نتذكر قولا بشأنها صدر عن أحد الأدباء العالميين، ألا وهو إرنست هيمنجواي Ernest Hemingway، الذي كتب روايات عدة انتشرت عالميا، بينها رواية الشيخ والبحر، ورواية وداعا للسلاح. يقول هذا الكاتب: "ليست الكتابة سوى أن تجلس أمام آلة الطباعة وتنزف"، ولعله يقصد بالنزيف هنا فيض المشاعر الذي يماثل فيض الدماء. فمشاعر الأديب تكون عادة مرهفة وعميقة ومتملكة للنفس البشرية، فإذا فاضت بشأن موضوع ما، فكأن الدماء تفيض هذا الفيضان الذي يدفع الأديب إلى التعبير عنه عبر تجسيده في شخصيات، يضعها في قوالب فكرية، تتفاعل فيها المشاعر الإنسانية، كما قد يحدث على أرض الواقع، أو ربما كما يحدث في خيال الأديب.
وبالطبع، ليست الكتابة الأدبية روايات فقط، بل هي فن يشمل أشكالا مختلفة، تقدم جميعها معطيات مثيرة، لأنها تهتم بحياة الإنسان في مختلف المجتمعات، رغم أنها قد تخرج عن منطق الواقع والمألوف أحيانا، محلقة في فضاء يديره القلب أكثر مما يحكمه العقل. ولا شك أن الشعر أحد أهم أشكال الأدب، وهناك بيت من الشعر ينسب إلى أبي فراس الحمداني يقول: الشعر ديوان العرب، أبدا وعنوان الأدب. ويمتاز الشعر عن باقي أنواع الأدب بنصوصه المعبرة التي تحمل إيقاعا جميلا يزيد من تأثيرها في القارئ.
وننتقل إلى الكتابة العلمية، وكثيرا ما تسمى أيضا بالكتابة الفنية أو التقنية Technical Writing. لهذه الكتابة تعريف مأثور يقول: "الكتابة العلمية أو التقنية هي تواصل موضوعي في مجال ما، يهدف إلى نقل معلومات محددة، من أجل هدف محدد وقارئ محدد، أو مجموعة محددة من القراء". وانطلاقا من هذا التحديد لكل من: طبيعة التواصل، والمجال، والأهداف، والقراء، ترتبط هذه الكتابة بالمحاكمة الذهنية الواقعية، والمعلومات الدقيقة في المجال المطروح، والحيادية في الطرح بعيدا عن العواطف وأجيجها، وعن حكم المشاعر وذاتية المعاني.
وهكذا نجد أن الكتابة العلمية تحتاج إلى منظومة تفكير موضوعية تهتم بالحقائق وما يرتبط بها من أفكار، وترفض تدخل الأهواء والمشاعر، والفصل فيما تقدمه للدليل Evidence الناتج عن التجربة والمنطق، وما يمكن التوصل إليه من خلالهما. أما الكتابة الأدبية فمنظومة التفكير فيها منظومة ذاتية تعبر عن رؤية الكاتب الشخصية للحياة، ومشاعره وأهوائه وتوجهاته وخيالاته، بل وتجاربه في الحياة أيضا، ومن وجهة نظره الشخصية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يعد إبداعا روائيا أو شعريا في الكتابة الأدبية، ينظر إليه على أنه اختلاق لمعلومات غير موثقة بالأدلة الموضوعية، وبالتالي مرفوضة في الكتابة العلمية. وعلى أي حال، فإن للكتابة الأدبية المعبرة عن الحياة والمجبولة بعواطف صاحبها وخيالاته جوائز كثيرة، بينها فرع الأدب في جائزة نوبل Nobel Prize العالمية وللكتابة العلمية مثل ذلك، لكنها ترتبط فقط بالمنجزات العلمية التي تقدمها على أرض الواقع.
الكتابة هي بالفعل تفكير على الورق أو ربما على شاشات الحواسيب. لكن المؤثرات في التفكير تختلف بين العلم والأدب، وعلى ذلك فإن لكل منهما منظومة تفكير تختلف عن الأخرى. الكتابة العلمية فكر يستند إلى منطق وحقائق لا مكان فيها للمشاعر والتوجه الشخصي، إلا الحماس للعمل العلمي المنطقي والتجريبي الذي تطرحه وتبين معطياته. أما الكتابة الأدبية فهي فكر أيضا، لكن هذا الفكر مجبول بفيض مشاعر الكاتب ورؤيته ونظرته إلى الحياة. ولا شك أن الإنسان بطبيعة تكوينه التي أرادها الله له، يستقبل كل منهما بالترحاب، بل يحتاج إليهما أيضا.
إنشرها