Author

تخفيف آثار الجائحة العالمية عن القطاع الخاص

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أستهل الحديث عن أولويات التصدي محليا لآثار الجائحة العالمية، فيروس كورونا كوفيد - 19، والجهود الواجب تكاملها من قبل الأجهزة الحكومية كافة لتحقيق هذا الهدف التنموي، بالضرورة القصوى للمحافظة على وظائف العمالة الوطنية، ذكورا وإناثا، في القطاع الخاص، وحمايتها من الفقدان أو خفض مستويات أجورها، واعتبار تلك المهمة من أهم وأثقل الأولويات المحلية الواجب أداؤها في هذا السياق. أمر كهذا كيف بالإمكان تحقيقه؟ إن لم يتم العمل بجهود أكبر وأكثر تكاملا بالمحافظة على استقرار واستدامة حياة منشآت القطاع الخاص، التي تعد الوعاء الذي تسكنه وظائف العمالة الوطنية، فهذا يعني - باختصار شديد جدا - أننا أمام أولويتين أشبه ما يكونان بوجهين متظاهرين لعملة واحدة، ولا يمكن الفصل بين تحقيق أي منهما دون تحقيق الآخر. وانطلاقا مما سبق إيضاحه في المقال السابق حول القطاع الخاص وما يمثله في اقتصادنا الوطني، والاحتضان الحكومي المكلف جدا له طوال أكثر من نصف قرن مضى، فاق إجمالي فاتورته على كاهل الدولة تريليونات الريالات، في الوقت ذاته الذي لم يقابله المردود الاقتصادي المماثل، لا على مستوى المساهمة في زيادة تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، ولا على مستوى المساهمة في النمو الاقتصادي واستدامته، ولا على مستوى توطينه المكافئ لفرص العمل الكامنة في مختلف منشآته. هنا يأتي الحديث عن حقبة زمنية طويلة جدا، تجاوزت فترات الانتعاش الاقتصادي خلالها فترات الركود، فما بالنا والحديث اليوم يدور حول قطاع خاص واقع تحت ضغوط التداعيات العكسية الشديدة جدا لآثار الجائحة العالمية، فيروس كورونا كوفيد - 19، الضغوط الأكبر على الاقتصاد العالمي منذ الكساد الكبير خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
اقترن تحقيق أولوية المحافظة على وظائف العمالة الوطنية في القطاع الخاص، في المقال السابق، بضرورة أن يتم توفير البدائل المالية والتحفيزات اللازمة لمنشآت القطاع لأجل إبقائها على قيد الحياة، ودون أن تتورط في أي من أشكال الإفلاس أو توقف النشاط، وهو ما سيحافظ - بدوره - على تماسك الاقتصاد الوطني عموما، ويوفر الحماية اللازمة لنشاطاته الرئيسة والفرعية، ويحقق بذلك الحماية المتوازنة لكل من منشآت القطاع الخاص من جانب، ومن جانب آخر حماية وظائف العمالة المواطنة من السقوط والفقدان.
لا تقف أحزمة حماية ودعم منشآت القطاع الخاص عند مجرد ضخ مزيد من الأموال "يقدر إجمالي حجمها حتى تاريخه بنحو 180 مليار ريال"، وهو ما يشكل في جانب آخر منه عبئا كبيرا على كاهل الميزانية العامة للدولة التي يرتبط برنامج المحافظة على توازنها هي أيضا، والسيطرة على عجزها المالي والدين العام، بمستوى أعلى من السياسات الاقتصادية والمالية، التي تستهدف بشكل أوسع استقرار الأداء الاقتصادي الكلي، وتحقيق التوازن المالي بما يتضمنه من إحكام السيطرة على كل من العجز السنوي وحجم الدين العام. كل هذا سيقتضي اللجوء إلى اتخاذ تدابير وإجراءات إضافية متى ما تطلب الأمر، ودون الإخلال بالأهداف الاستراتيجية المشار إليها أعلاه، وهو ما سيكون له بكل تأكيد الآثار المؤلمة، اقتصاديا واجتماعيا في قطاعات أخرى، تمتد - بالطبع - لتشمل منشآت القطاع الخاص وكثيرا من أفراد المجتمع، اللذين يشكلان الأولويتين التنمويتين أعلاه، ما يقتضي بالضرورة القصوى في هذا الشأن أن يتم العمل وفق جهود إضافية إلى أن يتم النأي هنا "بالقطاع المنتج" ممثلا في كل القطاع الخاص والعمالة الوطنية فيه، عن تلك الآثار الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة، والعمل على توجيهها بدرجة أكبر نحو "القطاعات الخاملة" في الاقتصاد الوطني، التي يأتي في مقدمتها الأراضي الخام وغير المستغلة سكنيا وتجاريا وصناعيا، وتقدر مساحاتها بعشرات المليارات من الأمتار المربعة على مستوى المحافظات والمدن.
إنها الأراضي ذاتها الأصول الخاملة التي اكتنزت مئات المليارات من السيولة المحلية، ولم تسهم بأي حال من الأحوال في تعزيز نشاط الاقتصاد الوطني، ولا في زيادة النمو الاقتصادي، ولا في إيجاد أي فرصة عمل أمام الباحثين عن عمل، بل على العكس من كل ذلك، أسهمت في ارتفاع تكلفة تدشين وتأسيس المشاريع الإنتاجية، وحرمان الاقتصاد الوطني من تدفق الثروات على استغلال فرصه الاستثمارية محليا، حيث اجتذبت أغلب الثروات والسيولة محليا، نظرا إلى تناميها القياسي سنويا ودون أي تكلفة أو أعباء على ملاكها، بل قد تسبب أيضا غلاء أسعار تلك الأراضي في الحد من تدفقات الاستثمار الأجنبي على الاقتصاد الوطني، ومساهمتها أيضا في ارتفاع تكلفة المعيشة على أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو ما ترتب لمواجهة تلك الآثار العكسية، إن قامت الدولة باتخاذ إجراءات وبرامج اقترنت بارتفاع شديد جدا في تكاليفها المالية "زيادة رواتب، صرف بدلات غلاء، زيادة إعانات"، ولأسباب عديدة أدت تلك الإجراءات إلى مزيد من تضخم أسعار تلك الأراضي التي كان مفترضا أن تواجه بسياسات وإجراءات مختلفة تماما، تستهدف أولا رفع تكلفة التملك طويل الأجل لتلك الأراضي، وثانيا رفع تكلفة تدوير ملكيتها والمضاربة عليها، إلا أنه ما لم يحدث - مع الأسف الشديد.
إن المرحلة الراهنة بما تحمله من تحديات جسيمة، وتناقص في الخيارات المتاحة مع طول عمر هذه الجائحة العالمية، تتطلب أن يبدأ العمل منذ اللحظة على تنفيذ هذا الخيار الاستراتيجي، الذي تأخر تطبيقه منذ أعوام عدة، وسيسهم بصورة كبيرة في تحقيق عديد من الأهداف الخادمة للاقتصاد الوطني، من خلال المساهمة في خفض تضخم أسعار الأراضي، وانخفاض ما سيتبعها من أثمان وإيجار مختلف الأصول العقارية، هذا من جانب، ومن جانب آخر سيخدم أيضا الميزانية العامة للدولة عبر زيادة إيراداتها غير النفطية، ما سيخفف - بدوره - من حجم العجز المالي السنوي، ويخفف أيضا من ارتفاع الدين العام، كما سيؤدي انخفاض تضخم أسعار الأراضي والعقارات وتكاليف إيجاراتها إلى تقليص تكاليف برامج الدعم والتحفيز المباشرة، سواء لمنشآت القطاع الخاص أو لأفراد المجتمع، وكل هذا أيضا سيسهم في زيادة اجتذاب السيولة المحلية والاستثمار الأجنبي، لمزيد من استغلال الفرص الاستثمارية الكامنة في بيئة الاقتصاد الوطني، وهو ما يمثل فعليا الانتقال من منطقة السياسة الدفاعية عن الاقتصاد الوطني إلى منطقة السياسة الهجومية لمزيد من اصطياد الفرص الاستثمارية غير المستغلة. إننا نتطلع جميعا إلى أن نرى قريبا جدا هجوما حقيقيا وإيجابيا من قبل واضعي السياسات الاقتصادية والمالية على الفرص المثلى، والعمل من ثم على توظيفها سريعا للنهوض بمقدرات الاقتصاد الوطني، وبيئته الاستثمارية، وبحجم وأعداد فرص العمل الكامنة فيه.
إنشرها