Author

عجائب التجربة الاقتصادية الفنلندية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

أرفع أسمى آيات التهاني لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وإلى القراء في كل مكان، فكل عام وأنتم بخير، وأدعوكم إلى التفاؤل، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل ويقول "لا عدوى ولا طيرة". أقول هذا، لأن الفضاء أصبح مليئا بالترهات حول المشكلة الاقتصادية، حتى زاد قلق الناس حول مستقبلهم، وتأتيني من الأسئلة حول الغد، ولهذا أقول بأعلى صوت ممكن، لا تقلق، فبعد رحلة دامت نحو 30 عاما في قراءة وتعلم الاقتصاد والمحاسبة والمخاطر، أقول، لا أحد على هذا الكوكب يعلم يقينا عن الأسعار غدا.

وكي تكون على ثقة، فهذه قصة غريبة للفيلسوف ديكارت الشهير، عندما أزعجته ذبابة، فقال في نفسه، "كيف لي أن أحدد لشخص آخر أين مكان الذبابة؟"، وكان صاحب إبداع وخيال واسع، فقال "لو تصورنا وجود خط وهمي أمامنا من الأعلى إلى الأسفل، وخط آخر يقطعه من اليمين إلى الشمال، فهذا يصنع لنا شكلا من أربعة فراغات ويمكن تحديد مكان الذبابة في الفراغ الذي تكون فيه". هذه الفكرة تحولت إلى شبكة ديكارت، وأصبح تحديد مكان أي شيء عبارة عن نقطة من رقمين في هذه الشبكة.

هذا الوصف البسيط جدا بني عليه علم الاقتصاد كله، فالاقتصاد عبارة عن تصور خيالي للحالة الراهنة لمعرفة أين سيكون الغد، فالاقتصاد يقع بين خطين، الأول: الأسعار، والثاني: كمية المعروض من السلع. وإذا أردت معرفة أين سيكون السعر غدا، فما عليك إلا قراءة شبكة ديكارت عن سعر اليوم، ثم تستخدم مهاراتك وخبراتك وبعض المراهنة لتوقع ماذا سيكون السعر غدا. هذا هو الاقتصاد في أبسط صورة ممكنة. وسؤالي الآن: هل في هذا ما يقلقك عن الغد، وهو مجرد تصور احتمالي لشخص يقرأ بيانات الماضي؟


الحكومات تستخدم النماذج الرياضية من هذا النوع لتعرف حجم العرض والأسعار، وهل تغيرت منذ شهر، لكن كل هذا ليس بالضرورة أن يكون واقع الناس في كل صباح يخرجون فيه للحياة. فلا تقلق أبدا ما دام هناك عمال قادرون على العمل، وأرض يمكنهم الوقوف عليها للعمل، فالاقتصاد في يد العمال الذين ينتجون من أرضهم لأرضهم، في عقولهم التي تحول طين الأرض إلى آلة، ويجعلون الآلة تصنع غيرها، وهكذا في رحلة من النمو للنماء، وهي سنة الله في خلقه، فلا تقلق، فالحياة مستمرة، وهذه الأرض موعودة بالخير وستعود أنهارا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم.


ولأننا في مقام التفاؤل دائما، فإنني أحب أن أتذكر دائما قصة الشعب الفنلندي، وهو في أقصى شمال الأرض في برد وثلج وبحر يتجمد، في أرض من الجوع والظروف المناخية السيئة جعلت 70 في المائة من السكان يعملون في قطع الأشجار وحرقها للتدفئة، "أرض وعمال فقط"، لكن حرفة قطع الأشجار أظهرت بعض المساحات للزراعة التي تطلبت بعد ذلك تأسيس بعض الأعمال الحديدية لتزدهر الأرض بأهلها وعمالها، ومع توافر القطران ونشارة الخشب وتجارة الفراء، توافرت الأموال لاستيراد السلع الأخرى، مثل: الملح والقهوة والسكر والأقمشة، وازدهرت المدن الصغيرة، وتراكمت الأموال ورأس المال، ليتم إدخال الآلات البخارية ومصانع القطن وخطوط السكك الحديدية، ما جعل الوصول ونقل السلع والأخشاب إلى أوروبا، خاصة بريطانيا، عملا سهلا. عامل مجتهد وأرض صنعت حضارة.


لكن هذا الازدهار لم يمض بعيدا حتى نشبت الحرب بين فنلندا الطامعة في الاستقلال وبين روسيا، فحطمت تلك الحرب فرص النمو والحياة الكريمة، وعادت فنلندا إلى نقطة الصفر، لكن ما لبث أن عاد الجميع إلى العمل، فتم إنشاء عدد كبير من المزارع الصغيرة الجديدة التي يمكن أن تدعم الأسر، وعاد الحطابون إلى الغابة مع الفؤوس والمناشير بالهمة القديمة نفسها، فبعد الحرب العالمية الأولى التي لم تشارك فيها فنلندا، زاد الطلب على الأخشاب بوتيرة سريعة، فتحسنت إنتاجية العمال.

وبسبب الطلب القوي على الورق، ازدهرت فنلندا مرة أخرى، لكن الحرب العالمية الثانية جاءت بالبؤس من جديد، ولأنها اختارت الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، كان على فنلندا أن تدفع ثمنا باهظا بعد ذلك، حيث فقدت عشر أراضيها، وتم تهجير مئات الآلاف، فضعفت الإنتاجية وأكلت تعويضات الحرب ما أنتجه الناس. لكن فنلندا لا تقف، فالأزمة أوجدت فرصة، وتحول الاتحاد السوفياتي إلى سوق ضخمة للمنتجات الفنلندية، وعاد معدل الإنتاج يرتفع، وقررت فنلندا - لأول مرة - تنويع الصادرات من خلال الصناعات التحويلية التي أصبحت مهمة للسوفيات، خاصة الملابس والأحذية، وبدأت الصناعة الكيماوية. كل هذا زاد من معدلات المواليد، ما دعا إلى تحسين شامل في نظام التعليم.

لكن هذا أيضا لم يدم طويلا، فالاعتماد على السوفيات مكلف، وكان مصدرا للتضخم المدمر في فنلندا مع حقبة ارتفاع أسعار النفط. وحاولت فنلندا الخروج من تلك الأزمة، لكن ما تهدأ حتى تعود لتنتهي مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور النظام الليبرالي الجديد لحركة رأس المال الدولية، وهو ما دفع الاقتصاد الفنلندي إلى كساد كبير أشد من كساد الثلاثينيات، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 10 في المائة في ثلاثة أعوام، وارتفعت البطالة إلى 18 في المائة.

لكن ما إن أدرك الشعب الفنلندي خلاصه من الاتحاد السوفياتي حتى عاد بقوة إلى العمل وانتعش الاقتصاد مرة أخرى بمعدل نمو سريع، نظرا إلى مستوى التعليم المتطور حينها، الذي حقق قفزة نوعية في مجال صناعة الإلكترونيات، لتظهر "نوكيا" أكبر منتج في العالم للهواتف المحمولة ومنشأ رئيس لمحطة الإرسال.

وعادت شركات الورق الفنلندية إلى الازدهار، وعاد الشعب إلى رفاهيته التي صنعها بنفسه من عامل وأرض، لكن الأزمة المالية العالمية أثرت في الاقتصاد الفنلندي بشدة، وها هو اليوم يعود في رحلة مدهشة جعلت موقع المنتدى الاقتصادي العالمي يقول، "من المدهش حقا كيف عالج صانعو السياسات الفنلنديون وأصحاب المصلحة الاقتصاديون - على نطاق أوسع - التحديات بطريقة عقلانية وبراجماتية، إضافة إلى قدرتهم على بناء توافق في الآراء بشأن القضايا الحاسمة"، هذه قصة فنلندا في أرض من الجوع والبرد، والليل الذي لا ينجلي، تصنع اقتصادها كأنه لا ينتهي. فلماذا القلق؟

إنشرها