Author

تفعيل ثقافة العصر عبر بيئة التحول الرقمي

|
يقترن وباء كورونا بمآس كثيرة شهدها العالم، حيث لم ينج أي مجتمع من شروره، سواء إنسانيا حيث أصاب الملايين، أو اقتصاديا حيث أدى إلى وقف أعمال عديدة أو اجتماعيا، حيث تسبب في حجر الناس في منازلهم ومنعهم من تبادل الزيارات. لكن هذا الوباء، وبعيدا عن المآسي دفع موضوع التحول الرقمي إلى الأمام لينطلق متسارعا مقدما تجربة ناجحة لأداء كثير من الأعمال، وتنفيذ عديد من المهمات عبر فضاء الإنترنت السيبراني. بذلك بات هذا الفضاء أكثر تأثيرا من ذي قبل في الفضاء المادي الذي نعيشه، وقد طرحنا هذا الأمر في مقالات سابقة ناقشت موضوعات مختلفة ترتبط بالمجال الواسع للتحول الرقمي وما حدث بشأنه، ومتطلباته، ومعطياته.
يركز هذا المقال على مسألة تفعيل ثقافة العصر عبر بيئة التحول الرقمي. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا في التأثير الثقافي عبر الفضاء السيبراني، إلا أن هذا التأثير كان عشوائيا وغير موجه بالقدر المأمول إلى متطلبات ثقافة العصر الذي نعيشه، والذي يشهد تراكما وتنافسا معرفيا غير مسبوق. وإذا عدنا إلى مفهوم الثقافة، في هذا الإطار، لوجدنا أن حصيلة ثقافة الإنسان تتجسد في سلوكه تجاه ذاته، وتجاه تعامله مع الآخرين في الدوائر الاجتماعية البعيدة والقريبة من حوله، وتجاه عمله المهني وطموحاته ومنجزاته. وعلى ذلك وانطلاقا من هذا المفهوم، نجد أن الوسيلة الرئيسة لتطوير سلوك الإنسان والارتقاء بمعطياته في هذا العصر تكمن في تزويده بالمعرفة اللازمة لثقافة العصر، أملا في أن يؤدي ذلك إلى تفعيل إيجابيات سلوكه وتطويرها نحو تحقيق نجاح شخصي له وعطاء للمجتمع من حوله.
إذا نظرنا إلى التطور الثقافي للإنسان، نجد أن البيئات الاجتماعية حول العالم تمنح أصولها الثقافية لأبنائها، ونحن - بحمد الله وفضله - ننهل في هذا المجال، من ثقافة الدين الإسلامي الحنيف، ثقافة "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". إضافة إلى بيئة النشأة، تعطي المعرفة المدرسية والأكاديمية معارف كثيرة، منها العام ومنها الخاص، وغايتها حصيلة معرفية تشمل سعة Breadth ممتدة في المشهد المعرفي الذي يكتسبه، وعمقا Depth في تخصص معرفي يؤهل للعمل المهني. لكن ذلك ليس كافيا في العصر الذي نعيشه، فالمعرفة في هذا العصر متجددة ومؤثرة في مختلف نواحي الحياة.
المشهد المعرفي اللازم للحياة العامة في هذا العصر يتجدد باستمرار، خصوصا في المجالات العلمية والتقنية وأفكار التعامل بين الناس. وكذلك في عمق المعرفة المهنية وطبيعتها ومدى الحاجة إليها، علما بأن المهن ذاتها تتجدد وتختلف، كما أن كثيرا منها مهدد بالتقلص، حتى بالزوال، نتيجة للتقدم العلمي للذكاء الاصطناعي. ولنا في هذا المجال أن نتذكر المقولة التالية لأحد رؤساء الجامعات المرموقة: ليس التعليم الجامعي لقاحا يؤخذ مرة واحدة ليحمي صاحبه إلى آخر العمر. والمعنى المقصود أن التعليم الجامعي تأسيس للبناء المعرفي، وليس البناء ذاته، فالبناء يجب أن يستمر إلى آخر العمر.
نحتاج إلى معرفة متجددة تتناسب مع متطلبات هذا العصر تعزز ثقافتنا اللازمة لهذا العصر، وتؤدي بالتالي إلى تطور سلوكنا، بما يتناسب مع متغيرات الحياة واحتياجات المنافسة التي تفرضها. وهناك جهود في هذا المجال في إطار توجهات التعلم مدى الحياة Life Long Learning: LLL والبرامج المرتبطة بهذا التعلم. ولدى كثير من الجامعات حول العالم مثل هذه البرامج، كما أن كثيرا منها يتم عبر الإنترنت. وحقيقة الأمر أن هذه البرامج لم تنتشر على نطاق واسع، ولم تصل إلى المستوى الذي تتطلع إليه ويحتاج إليه العالم فعلا، وبقيت بالتالي محدودة التأثير. لكن أثر وباء كورونا في تفعيل التحول الرقمي، والتجربة القسرية الناجحة التي تسبب في حدوثها أديا إلى فتح آفاق جديدة لتفعيل نشر المعرفة والاستجابة لمتطلبات ثقافة العصر الذي نعيشها.
ولعل ما يخفف من وطأة زمن كورونا الكئيب، أن جهات عدة أطلقت برامج معرفية تثقيفية مفيدة ومفتوحة للجميع عبر الإنترنت، خلال أمسيات شهر رمضان المبارك ابتداء من الساعة العاشرة مساء. وسنطرح فيما يلي مثالين على ذلك تم طرحهما من جهتين متميزتين. يرتبط المثال الأول بمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع: "موهبة" التي أقامت ندوات تثقيفية مسائية رمضانية تحت عنوان "فوانيس موهبة". ومن بين الموضوعات التي تضمنتها هذه الندوات: موضوع حول الموهبة والإبداع في الرياضيات، وآخر حول تسخير البيئة الافتراضية لرعاية الموهوبين. ولا شك أن هذه الموضوعات تهم كل أب وأم ومعلم، كما تهم أيضا كل من يتطلع إلى تنمية المواهب والاستثمار فيها في المستقبل.
ونأتي إلى المثال الآخر الذي انطلق من معهد ريادة الأعمال في جامعة الملك سعود، حيث طرح المعهد جلسات تحت عنوان: "مستشارك الريادي"، وأقام أولى جلساته في الأسبوع الثاني من رمضان، وكان موضوعها تحويل الأفكار إلى فرص، والمقصود فرص لأعمال تتطلع إلى السوق وتستحق الاستثمار، ويمكن أن تؤدي إلى توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة والإسهام في التنمية. وبالطبع تسهم مثل هذه الموضوعات في تشجيع الشباب وتثقيفهم في التوجه نحو الابتكار وتوليد الأفكار المفيدة والدعوة إلى الإسهام فيها، والعمل على نجاحها وتحقيق أهداف التنمية التي نتطلع إليها، إضافة إلى تحقيق الأهداف الشخصية. وهناك بالتأكيد أمثلة أخرى تم طرحها من قبل جهات أخرى، وأمثلة تنتظر الطرح في المستقبل.
نحتاج إلى طرح موضوعات ثقافة العصر على نطاق واسع؛ ويعطي الفضاء السيبراني وسيلة متميزة لتأمين ذلك، خصوصا بعد التجربة القسرية الناجحة للتحول الرقمي التي فرضها وباء كورونا. ولا شك أن الأمثلة المعطاة على ذلك تتسم بالوعي وحسن التدبر، في توجهها نحو نشر هذه الثقافة. والأمل من جميع الجهات ذات العلاقة بثقافة العصر، أن تستفيد من الفضاء السيبراني في تمكين هذه الثقافة من الوصول إلى الجميع، بكفاءة تبرز معطياتها وتحد من تكاليفها. استعدادا لمستقبل نأمله مشرقا بالعطاء بمشيئة الله.
إنشرها