Author

السقوط الحر لأسعار النفط

|
عانت الأسواق النفطية العالمية زيادة المعروض النفطي منذ فترة من الزمن، وازدادت أوضاع السوق تأزما بسبب أزمة كورونا الاقتصادية التي قادت إلى سقوط شبه حر للطلب العالمي النفطي، حيث هوت أسعار النفط قبل أسبوعين إلى مستويات متدنية، وسجل سعر خام غرب تكساس الأمريكي أسعارا سالبة لأول مرة في التاريخ. في بداية الجائحة تراجع الاستهلاك الصيني النفطي، ولكن الصين استغلت الأزمة لزيادة احتياطياتها النفطية الاستراتيجية؛ ما قلل آثارها في السوق النفطية العالمية. عند وصول الجائحة إلى أوروبا تراجعت الأنشطة الاقتصادية وانخفض الطلب النفطي في أوروبا وارتفعت الضغوط على أسعار النفط العالمية، ولكن انتقال الجائحة إلى الولايات المتحدة (وباقي دول العالم) واستمرار الإنتاج العالمي النفطي المرتفع (وخصوصا الأمريكي) ولّدا تخمة في المعروض النفطي العالمي. ومع اشتداد إجراءات الحجر الصحي للولايات المتحدة في بداية نيسان (أبريل) تهاوى الاستهلاك النفطي الأمريكي إلى أدنى مستوياته خلال عقود؛ ما ضخم التخمة النفطية في السوق الأمريكية.
تتربع الولايات المتحدة على رأس قائمة مستهلكي ومنتجي النفط، ولديها أكبر قدرات التخزين والتكرير، كما توفر بيانات نفطية سريعة وشفافة، وفيها أسواق سلع نشطة؛ ما يعطيها قوة كبيرة في التأثير في أسعار النفط العالمية. إضافة إلى ذلك تحتل المركز الأول في إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي وسوائل الغاز، وتضاف السوائل المنتجة من الغاز الطبيعي إلى المنتجات النفطية. ولا يقتصر الأمر على ذلك فهي أكبر منتج للوقود الحيوي (الإيثانول والديزل الحيوي) بما يزيد على مليون برميل يوميا تضاف هي الأخرى إلى المنتجات النفطية. وبلغ متوسط إمدادات المنتجات النفطية داخل الولايات المتحدة نحو 20.5 مليون برميل في عام 2019، أو 7.5 مليار برميل العام الماضي، وهو ما يقارب ضعفي إنتاج المملكة النفطي.
بلغ متوسط إنتاج الولايات المتحدة اليومي من النفط الخام في 2019 ما يقارب 12.2 مليون برميل. وإذا أضيف إلى هذا إنتاج سوائل الغاز الطبيعي البالغ 4.8 مليون برميل يوميا، وأضيف إنتاج الوقود الحيوي البالغ نحو 1.2 مليون برميل يوميا، ومكاسب الحجم في المصافي التي تقارب مليون برميل يوميا (تضاف مواد أخرى في عمليات التكرير)، فإن متوسط إنتاج الولايات المتحدة من المنتجات النفطية كان بحدود 20 مليون برميل في 2019. وارتفع إجمالي إنتاج الولايات المتحدة النفطي اليومي بنحو مليون برميل في شباط (فبراير) 2020 مقارنة بالمتوسط اليومي لعام 2019.
تصدر وتستورد الولايات المتحدة كميات كبيرة من النفط الخام ومنتجاته، ووصل إجمالي الواردات النفطية إلى نحو 9.1 مليون برميل يوميا، أما إجمالي الصادرات فكان بحدود 8.6 مليون برميل يوميا في 2019، وبذلك سجلت تجارة الولايات المتحدة الخارجية النفطية صافي وارادت بحدود نصف مليون برميل يوميا في 2019. وتحولت الولايات المتحدة إلى مصدر صاف للنفط منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
تظهر التخمة النفطية العالمية، وخصوصا الأمريكية، واضحة من بيانات مخزونات النفط الخام ومشتقاته في الولايات المتحدة حيث ارتفعت من نحو 1.9 مليار برميل عند نهاية 2019 إلى أكثر من ملياري برميل في العاشر من نيسان (أبريل) 2020، وجاءت معظم الزيادة نتيجة ارتفاع المخزونات التجارية. وتترقب الأسواق بيانات المخزونات الأمريكية الأسبوعية حيث تتفاعل معها أسعار النفط بقوة. ويؤكد المختصون أن قدرات التخزين الأمريكية وصلت إلى أوجها، وأنه لا تتوافر سوى قدرات ضئيلة للتخزين.
تشير بيانات المنتجات النفطية داخل الولايات المتحدة في الأسبوع المنتهي في السادس من آذار (مارس) 2020 إلى أن الاستهلاك اليومي الأمريكي كان بحدود 20.6 مليون برميل يوميا، ولكن الإغلاق الاقتصادي الناتج عن الحجر الصحي خفض الاستهلاك اليومي الأمريكي إلى نحو 8.1 مليون برميل يوميا في الأسبوع المنتهي في العاشر من نيسان (أبريل)، وبنسبة انخفاض تقدر بنحو 60 في المائة مقارنة بالأسبوع الأول من آذار (مارس) 2020. ويعكس حجم إمدادات المشتقات النفطية داخل الولايات المتحدة وتغيرات مخزوناتها حجم استهلاكها النفطي. وتسبب التراجع الحاد في الطلب الأمريكي في سقوط حر لأسعار خام غرب تكساس الوسيط وأسعار النفوط الأخرى. كما يعود تسجيل أسعار سالبة لخام غرب تكساس الوسيط دون غيره إلى ارتفاع المخزونات منه ونفاد طاقات تخزينه في كوشن في أوكلاهوما، وقرب انتهاء المتاجرة بعقود شهر أيار (مايو) 2020، وعجز مالكي عقود الخام الأمريكي لشهر أيار (مايو) من بيع عقودهم لمستهلكين حقيقيين؛ ما اضطر بعضهم لإغراء المشترين بدفع مبالغ معينة مقابل أخذ الكميات التي عليهم تسلمها. طبعا تعكس أسعار خام غرب تكساس الوسيط أوضاع الأسواق النفطية، في الولايات المتحدة بشكل خاص، لكنها تؤثر بقوة في أسعار النفط العالمية.
جاء هبوط أسعار النفط القوي المسجل أخيرا بالدرجة الأولى نتيجة هبوط مفاجئ وقوي في الطلب النفطي العالمي الذي تفاقم بعد وصول الجائحة إلى الولايات المتحدة التي تراجع استهلاكها وحدها خلال خمسة أسابيع بنحو 12 مليون برميل يوميا في بداية نيسان (أبريل)، ومن سوء حظ منتجي النفط أن ذلك صاحب تخمة في المعروض العالمي النفطي. وسيعود الاستقرار إلى الأسواق النفطية العالمية عند عودة الطلب العالمي إلى مسيرته التاريخية المعتادة، أما خفض المنتجين فسيكون عاملا مساعدا؛ لكنه لن يكون حاسما في تعافي الأسواق.
إنشرها