Author

التوجه نحو دمج «التقاعد» و«التأمينات الاجتماعية»

|

 يسيطر مشروع دمج مؤسسة التقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية في هذه الأيام على مناقشات كثير من المعنيين بالشأن المالي والاقتصادي في المملكة.

والحقيقة أن موضوع دمج هاتين المؤسستين الماليتين من المواضيع المطروحة للنقاش والمتداولة في دواوين المال والأعمال منذ أمد بعيد.
والحقيقة أنه حينما كانت تطرح فكرة دمج المؤسسة العامة للتقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية في حوارات الصالونات التي كنت أرودها، كنت من المؤيدين بقوة لعملية الدمج، وكان كثير من البيروقراطيين ضد فكرة الدمج لأسباب إدارية وبيروقراطية غير مبررة موضوعيا ولا ماليا أو اقتصاديا.
كنت أعتقد أنه لا مبرر لهذا الفصل بين مؤسستين تقومان بالوظائف نفسها، ولا سيما أن فكرة تطوير وظائف الدولة باتجاه تمكين القطاع الخاص من القيام بكثير من الوظائف التي تقوم بها الحكومة تأخذ طريقها إلى التطبيق على نطاق واسع.
ولذلك اكتسبت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ــ مع الأيام ــ أهمية أكبر، لأن الدولة الرعوية بدأت تتقلص وبدأت تشعر أن الملقى على عاتقها من وظائف ومهام تجاه المجتمع أكبر من الإمكانات المتاحة، ولذلك فإن الدول التي تقوم بكل هذه الأعباء لم يعد لها وجود إلا في القليل النادر، وهو ناموس يخالف طبيعة الحياة، ويخالف كل النواميس في جميع دول العالم.
ولذلك حينما صدرت "رؤية السعودية 2030" في عام 2016 كان من بين أهدافها تعزيز مبدأ قيام القطاع الخاص بمهامه الطبيعية تجاه المجتمع، ولهذا اتخذت الدولة كثيرا من التدابير الرامية إلى دعم القطاع الخاص وتأهيله ليكون قادرا على الاضطلاع بوظائف المجتمع الاقتصادية والمالية والثقافية والسياسية، وأن تركز الحكومة على تصميم السياسات الخارجية والاقتصادية للدولة، وتوفير الأمن والأمان للمجتمع، والقيام بمهمة الدفاع عن حدود الدولة.
والواقع أننا إذا عدنا إلى قراءة "رؤية السعودية 2030" نلاحظ أن مشاريع نقل الوظائف الحكومية من الحكومة إلى القطاع الخاص بدأت بالفعل من خلال وضع أسس بناء قطاع خاص قوي قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات ما بعد 2030، ومؤهل لبناء مجتمع قادر على إدارة مؤسساته، وهي مرحلة تنهي الاعتماد على المورد الواحد وتبني موارد عديدة للدولة حتى تكون دولة عصرية بمقومات الدولة الحديثة.
ويخلع علماء الإدارة على هذه المرحلة اسم "إعادة اختراع الحكومة"، أي إعادة هيكلة الحكومة باتجاه بناء قطاع حكومي قوي، وأيضا بناء قطاع خاص بالقوة نفسها، ووضع سياسة خارجية رشيدة، وتوفير الأمن وبناء القدرات الذاتية والوطنية للدفاع عن كيان الوطن، ثم تكليف المجتمع ــ من خلال مؤسسات القطاع الخاص ــ بالمساهمة في بناء الاقتصاد الوطني متعدد الموارد، ومتعدد الإمكانات، مجتمع يقوم على استخدام تكنولوجيا المعلومات في بناء مؤسسات الدولة الاقتصادية والثقافية والتعليمية والسياسية.
وطالما أن هذه الأهداف بدأت تتحقق في الواقع، فإن بقاء مؤسستين لصرف العوائد التقاعدية لم يعد ضروريا، بل من الضروري تقوية المؤسستين بدمجهما في كيان واحد، يتولى مسؤولية صرف رواتب وعوائد المتقاعدين.
ونذكر جميعا أن المؤسستين الماليتين الكبيرتين "المؤسسة العامة للتقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية" تعرضتا لمشكلات مالية كبيرة في الأعوام القليلة الماضية، وأن قضية الدمج لم تأت من فراغ، بل جاءت بعد دراسة عميقة لتجارب شارفت على الـ50 عاما، ونذكر أيضا أن مؤسسة التقاعد قبل أعوام قلائل كانت تحذر من مغبة العجز عن الوفاء بصرف رواتب المتقاعدين، وشكت المؤسسة من تضخم عدد المتقاعدين، وسربت أخبارا مفادها أنها ربما لا تستطيع توفير كل رواتب المتقاعدين في المستقبل إذا استمرت معدلات الزيادة في عدد المتقاعدين بهذه المعدلات المتصاعدة بشكل فاق كل التوقعات!
إضافة إلى ذلك فإن الدمج سيوفر للموظفين مزايا الانتقال والاندماج في القطاع المقرر تأسيسه بسهولة ودون عناء، وهذا من شأنه أن يدعم الهيئة الجديدة بالكفاءات البشرية التي تحتاج إليها الهيئة في عهدها الجديد وفي مرحلة من أهم مراحل قيامها بمهامها الجديدة.
فضلا عن ذلك فإن مقترح دمج مؤسستي التقاعد والتأمينات الاجتماعية يتوقع أن يؤدي إلى زيادة أصول الهيئة الجديدة ما يتيح لها فرصا إضافية لتنويع استثماراتها وزيادة عوائدها، كما سيعزز من قدراتها التشغيلية والإدارية ويزيد من تنافسيتها.
والواقع أننا إذا أردنا أن نستفيد من تجارب الآخرين ونظرنا إلى واقع الحال في الدول العربية المجاورة نلاحظ أن معظم الدول العربية تأخذ بنظام قيام هيئة واحدة لصرف عوائد التقاعد، بمعنى أن واقع الحال في الدول العربية الشقيقة يؤكد وجاهة فكرة دمج المؤسستين في هيئة واحدة.
ولم يأت هذا من فراغ بل جاء نتيجة تجارب مديدة ونتيجة دراسات رجحت أن تقوم المؤسسة الواحدة بمسؤولية صرف عوائد المتقاعدين في الدولة.
إذن ما يمكن استنتاجه من قيام مؤسسة واحدة لصرف العوائد التقاعدية هو توفير أموال طائلة كانت تنفق على قيام مؤسستين وليست مؤسسة واحدة.
وكذلك تمكين المؤسسة من التركيز على زيادة فرص الاستثمار، وتجويد العمل والأداء، واتخاذ القرارات الرشيدة، وعدم التورط في مشاريع لم تحظ بالدراسات الكافية والعميقة والوافية.

إنشرها