صناعة النقد والتحول الرقمي
تبدو صناعة النقد في العالم كأنها مليئة بالتعقيدات، وتزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وهذه التعقيدات ليست في شكل النقد نفسه الذي تحول من الشكل الكلاسيكي الورقي والشيكات إلى نماذج النقد الرقمي، وذلك عقب التطور المذهل في شبكات الاتصال العالمية وشبكات الإنترنت. وخلال العقد الأخير من القرن الماضي ظهرت على الساحة الاقتصادية أنواع جديدة من الأنشطة الاقتصادية التي لم تكن معروفة سابقا مثل شركات المدفوعات، وهي الشركات الوسيطة بين كل من المصارف والعملاء والتجار، وتوظف ما سمي لاحقا بنقاط البيع، لكن التطورات منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي كانت سريعة وضخمة جدا، حيث دخلت أنواع من النقد تسمى العملات الرقمية، وتوسعت التجارة الإلكترونية بشكل مذهل ودخلت شركات الاتصالات وشركات تكنولوجيا الاتصال والمعلومات إلى الساحة من خلال تسهيل عمليات الدفع في الموقع الإلكتروني أو من خلال الاتصالات أو الهواتف المحمولة، فالشركات التي تعمل في هذا المجال لم تعد تركز في شركات توفر أجهزة الصراف الآلي في المحال أو في الشوارع، بل أصبحت تتضمن شركات مزودة لخدمات الدفع للمتاجر الإلكترونية وشركات تعمل كمنصات للعملاء وشركات تقنية مالية، وهو ما غير هيكل ونماذج عمل شركات المدفوعات بشكل واسع وأصبح لزاما عليها تجاوز مرحلة البطاقات المصدرة والمطبوعة وأن تدخل عالم الاتصالات والتكنولوجيا، وإلا فستموت حتما، لكن هذا التحول ليس مجرد تغيرات في شكل الأصول المستخدمة بل هو تغيير في نمط الأعمال، وفلسفتها بشكل قد يبدو جذريا.
هكذا تبدو صناعة خدمات المدفوعات في العالم اليوم من حولنا حيث تسعى إلى أن تتكامل فيها الشركات بشكل رأسي وأفقي وجغرافي فيما بين جميع الأشكال والخدمات المقدمة، فلم تعد شركة بذاتها قادرة على البقاء، هذه الحمى للتكامل ظهرت على شكل اندماجات حدثت في الأعوام القليلة الماضية وبما يفوق 100 مليار دولار ولا تزال هذه الحمى تتواصل عندما قررت في الأسابيع الماضية شركة "ويرلدلاين" شراء شركة إينجنيسكو Ingenico مقابل 7.8 مليار دولار، ما يشكل أكبر شركة مدفوعات أوروبية. لقد كان أهم العوامل التي دفعت هذه الموجة من الصفقات القياسية في هذا القطاع، كما يشير عديد من التقارير، هو الاتجاه العالمي متمثلا في انتقال المستهلكين من النقد إلى المدفوعات الإلكترونية، مدفوعا في كل مكان بالهواتف الذكية وصعود التسوق عبر الإنترنت. وهو ما جعل الشركات المهيمنة على صناعة المدفوعات تعتقد أن التهديد الحقيقي لها أصبح وشيكا من شركات بحجم "أمازون" و"جوجل" و"أبل".
من اللافت للاهتمام أن السعودية تنبهت إلى هذه التحديات أيضا فبعد أن تم إنشاء أول شركة للمدفوعات عام 1990 من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي SPAN، التي كانت تعمل وسيطا بين المصرف مصدر البطاقة الإلكترونية للدفع والعملاء، وما تلا ذلك من ظهور منتجات أخرى مثل "سداد" و"سريع" وغيرهما فقد صدر قرار مجلس الوزراء في 2019 بإنشاء شركة سعودية للمدفوعات، تكون مملوكة بالكامل لمؤسسة النقد لدمج جميع نظم المدفوعات الوطنية لخدمة جميع مقدمي الخدمات بطريقة تضمن التركيز على تقديم أفضل الخدمات باحترافية، حيث تهتم الشركة بتمكين المنظومة لتقديم خدمات أساسية آمنة وموثوقة تحقق التوافقية وذلك بتوفير البنية التحتية المشتركة بما يضمن التنافسية بين مقدمي خدمات المدفوعات النهائية للمستفيدين تمشيا مع أهداف برنامج تطوير القطاع المالي أحد برامج رؤية المملكة 2030. وهذا القرار وما تبعه من تطورات يؤكد أن المملكة قريبة جدا من التحولات التي تشهدها الساحة الدولية بشأن صناعة المدفوعات والتحولات الرقمية في الأسواق وعالم التسوق الإلكتروني.