Author

الهجرة العكسية بين الإحصاءات والتكهنات

|


تواجه المملكة كغيرها من الدول النامية تحركات سكانية ضخمة من القرى والمدن الصغيرة إلى المدن الكبرى منذ الطفرة التنموية الأولى في منتصف سبعينيات القرن الميلادي المنصرم، ما ولد ضغطا كبيرا على الخدمات والمرافق العامة، إلى جانب الازدحام والاختناقات المرورية ونشوء ما يسمى الأحياء العشوائية في أطراف المدن وكذلك بؤر الفقر والجريمة في بعض الأحياء القديمة. وكنتيجة لتيارات الهجرة نحو المدن الكبرى، تركز أكثر من ثلثي سكان المملكة في ثلاث مناطق فقط هي الرياض ومكة المكرمة والمنطقة الشرقية، وهي ما يعرف بأنها مناطق جاذبة، في حين اتسم بعض المناطق الأخرى بأنها طاردة للسكان لأن عدد المهاجرين المغادرين منها أكثر من عدد المهاجرين القادمين إليها. ولما لذلك من أهمية، فقد حظيت هذه المسألة باهتمام كبير من قبل خطط التنمية الأخيرة التي وضعت ضمن أهدافها إحداث تنمية مكانية متوازنة، وترجمت الحكومة ذلك عمليا في عدد من السياسات والإجراءات، منها: التوسع في إنشاء الجامعات التي انتشرت في جميع مناطق المملكة وكثير من محافظاتها، وكذلك إنشاء المدن الصناعية في عدد من المناطق في شمال المملكة وجنوبها، ثم المشاريع التي اشتملت عليها "رؤية المملكة 2030". وبادرت غرفة الرياض بدراسة "دور التنمية المتوازنة في تشجيع الهجرة العكسية" ضمن دراسات منتدى الرياض الاقتصادي لهذا العام في محاولة لتوجيه الاهتمام بهذه القضية المهمة ودعم السياسات والقرارات لمعالجة الخلل في التخطيط للتنمية المكانية.
ونظرا لندرة البيانات التفصيلية عن التحركات السكانية عموما، والهجرة خصوصا، فإن الدراسات التي تناولت الهجرة في المملكة قليلة جدا، وكثير منها لا يستند إلى إحصاءات تفصيلية دقيقة، ما فتح الباب أمام بعض الباحثين غير المتخصصين لدراسة الهجرة في المملكة والخروج بنتائج غير دقيقة. وبناء عليه، فإن تقييم السياسات الحكومية التي تتخذها الدولة، وتحديد درجة نجاحها، يتطلبان إحصاءات دقيقة تجمع على مستويات مكانية صغيرة كالمحافظات مثلا. ولكن هذا النوع من البيانات لم تتمكن الهيئة العامة للإحصاء من توفيره في الماضي على الرغم من إشارتي وغيري في عديد من المقالات والمناسبات إلى أهمية بيانات الهجرة وضرورة جمعها على مستويات مكانية صغيرة مع إتاحة البيانات الخام أو عينة منها للباحثين ومراكز الدراسات والبحوث في الجامعات.
وفي ضوء ما تشهد المملكة من نهضة تنموية كبيرة تحقيقا لـ"رؤية المملكة 2030"، يبرز في الذهن عديد من التساؤلات: ما تأثير المدن الاقتصادية في التنمية المحلية في المناطق التي أنشئت فيها؟ وما تأثير الجامعات الناشئة في الحد من تدفق الهجرة نحو المدن الكبرى؟ ما تأثير المشاريع التنموية الكبيرة في مجالات التعدين والصناعة والترفيه والسياحة التي تعمل المملكة على إنجازها مثل مشاريع نيوم والبحر الأحمر والقدية وغيرها؟ وما تأثير فتح باب السياحة ومشاريع تأهيل المواقع السياحية والتراثية؟ في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات بدقة إلا من خلال جمع بيانات دقيقة وشاملة. وأتمنى أن تكون الهجرة الداخلية والتحركات السكانية الأخرى، ومنها رحلة العمل ضمن أولويات التعداد السكاني الذي سيجرى هذا العام.

إنشرها