Author

الاقتصاد السعودي ومفهوم التشاركية

|


يمر الاقتصاد العالمي اليوم بتحولات استراتيجية متنوعة. فالاقتصاد الذي كان يعتمد فيما مضى على ما تملكه الدولة من موارد، أصبح الآن يعتمد على ما يملكه الشعب من قدرات على الابتكار والتطوير. هذه التحولات قادت الفكر الاقتصادي مرة أخرى إلى منعطفات طالما مر بها، ولعل أهمها العلاقة بين القطاعين الخاص والعام.
هذه العلاقة التي كانت دوما محل تنازع، فإما أن يهيمن القطاع العام على الحركة الاقتصادية على أساس فروض، أهمها فشل الأسواق في تحقيق توزيع عادل للموارد، وإما فشل القطاع الخاص في استهداف مشاريع ذات طابع استراتيجي للأمة، وإما أن يهيمن القطاع الخاص على عوامل الإنتاج ويبقى للحكومة نصيبها من الضرائب على أساس أن الأسواق لا تفشل بذاتها، بل عندما تفقد الأنظمة فاعليتها، ولهذا يبقى دور الدولة منظما هو المحك.
لكن اليوم، في عالم تقوده المخاطر ويحتاج إلى الابتكار أيضا، فإن التعاون بين القطاعين العام والخاص، أصبح هو الطريق المأمول. هنا تبرز كتابات عالمية، مثل التي للاقتصادي جوزيف ستيجليتز، الذي يرى اعتماد "الرأسمالية التقدمية"، مناديا بعودة الدولة وتنظيم الأسواق، في حين يدعو الفرنسي توماس بيكيتي إلى "التشاركية"، هذا المفهوم الذي بدأ يبرز بقوة في الآونة الأخيرة على مستوى العالم. ولأن المملكة تترأس اليوم قمة الدول العشرين الأكبر اقتصادا في العالم، فإن هذا المفهوم أخذ حيزا كبيرا من التوجهات الاقتصادية القائمة على أساس التعاون المستدام بين القطاعين العام والخاص، وفقا لمقتضيات رؤية المملكة 2030 ومبادراتها.
إن تحقيق مفهوم التشاركية بين القطاعين الخاص والعام في المملكة، ظهر منذ اللحظات الأولى لتدشين رؤية المملكة 2030، على أساس أن الاعتماد على النفط يعد مشكلة اقتصادية راهنة، وأن تفعيل دور القطاع الخاص غير النفطي سيكون استثمارا استراتيجيا يمكن من خلاله تعزيز قدرات الاقتصاد على توفير فرص عمل، وأيضا دعم مالية الدولة من خلال الضرائب، فكلما نما القطاع الخاص استطاع الاقتصاد السعودي أن يبتعد عن معضلة الاعتماد على النفط. ومن أجل تحقيق ذلك، فإن المملكة عملت على مبادرات كثيرة، منها ما هو تشريعي لمنح القطاع الخاص كثيرا من المرونة وتحسين آلية التفاعل بين القطاعين. ولعل التطوير الأبرز ظهر مع نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، كما تم تطوير منصة اعتماد، التي تقدم نموذج السوق المنافسة كآلية موثوقة للوصول إلى أفضل أداء، وهذا بدوره يعزز من العلاقة التشاركية التي تمت الإشارة إليها. كما منح القطاع الخاص 72 مليارا، دعما من أجل تطوير الصناعات والخدمات اللوجيستية، وهي خطوة غير مسبوقة. وهذا الاتجاه السائد اليوم، يؤكد مضي المملكة قدما في التعاون المشترك بين القطاعين من أجل تسريع التنمية وتحقيق مبادرات "رؤية 2030".
الجدير بالذكر هنا، أن التوجهات العالمية نحو تطبيق مفهوم التشاركية، تقوم على أساس دخول الدولة بوصفها مستثمرا مع القطاع الخاص من خلال الصناديق السيادية. هنا نقرأ كثيرا من المبادرات التي أطلقت في العامين الماضيين، مثل صندوق المال الجريء، الذي يعتمد على الابتكار، خاصة من المبادرين. كما أتاحت الحكومة كثيرا من المشاريع من خلال برنامج التخصيص لتحقيق هذا المفهوم، ولعل بناء وتشغيل محطات للتحلية من القطاع الخاص واستثمارها لفترة محدودة، يقدم أنموذجا آخر على هذه التشاركية، كذلك ما قامت به المملكة من إتاحة شركة أرامكو للاكتتاب، وأعطت كثيرا من البيانات للمستثمرين، كما تم أخيرا تطوير الشفافية في المالية العامة، ومن ذلك الإعلان التمهيدي لمنح القطاع الخاص فرصة المشاركة وتقديم المقترحات والتصورات التي يرغب فيها. وفي هذا تشير التقارير إلى قيام الدعوة من الجهات الاقتصادية والتجارية المختصة إلى عقد الاجتماعات مع القطاع الخاص، والطلب برفع التوصيات والمقترحات والتصويبات والإيجابيات إلى الوزارات دون تردد.

إنشرها