Author

من أين ستأتي الأزمة الاقتصادية إذا كانت لم تأت بعد؟

|


"لئن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، هذا المثل مناسب جدا لوصف ما انتشر اليوم في كل مكان حول العالم عن الأزمة الاقتصادية، هناك كثير من التناقض في الوضع الراهن ومستقبل الاقتصاد العالمي، فالمؤسسات الدولية بين متفائل مع التحفظ وبين صريح التشاؤم، وكبار المستثمرين غير قادرين على تحديد مكامن المشكلة بنحو دقيق ومن أين ستأتي المخاطر، والشعوب تعاني فقد الثقة ونقص الوظائف، وهناك اضطرابات فعلية في الواقع. فهل حلت الأزمة فعلا بينما لم تعترف بها بعد ذلك؟ إن الأرقام والإحصاءات تعطي مؤشرات عكس الواقع الذي يصور البؤس، فالمشكلة تبدو وكأن النمو الاقتصادي الأبرز الذي تسجله المؤشرات الاقتصادية يذهب إلى قلة بينما كثير لم يزل ينتظر في الشوارع بحثا عن حصته، ففي العام الماضي كان هناك 26 مليارديرا يملكون معا أموالا توازي ما يملكه نصف أهل الأرض.
تتوقع منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي أن يكون حال الاقتصاد العالمي عام 2020 كما هو حاله في 2019، نحو أدنى مستوى للنمو منذ عام 2009، وإمعانا في التشاؤم تقول "إننا في مرحلة مقلقة"، في مقابل ذلك يأتي صندوق النقد الدولي، بمحاولة لرفع المعنويات والتفاؤل، ويقدر النمو في 2020 بـ3.4 في المائة، ثم يتردد مع القول إن هذا الانتعاش سيكون هشا. النمو العالمي وجد مصدره في الماضي من محركه الأساس لأعوام وهي العولمة. هناك كثير من دول العالم لم يعد لديه مجال للنمو داخليا، لقد انتهت جميع المشاريع الرئيسة في البلاد، ووجدت هذه الدول فرصا سانحة جدا مع نقل المصانع للدول الأقل نموا، وهكذا استمر الاقتصاد العالمي في النمو. لكن هذه العولمة استندت جزئيا إلى قوة سلاسل الإمداد وتسهيل حركة رؤوس الأموال والمنافسة العادلة، لكن وفقا للتقارير العالمية التي يؤيدها واقع الصراع السياسي فإن الاقتصاد المعولم وكذلك عصر ازدهار التبادل التجاري والصعود الصناعي للدول الناشئة، انتهى فعليا. لقد استنفد هذا المحرك كل قدراته على دفع الاقتصاد العالمي للأمام، خاصة مع دخول ممكنات جديدة مثل الاقتصاد الرقمي، والسباق التكنولوجي الكبير، ولم يعد أمام كثير من الدول سوى إيقاف نهج السوق العالمية الحرة إذا كانت ستؤدي إلى نمو الآخرين بينما هي تقود الاقتصاد المحلي إلى الاضمحلال، هكذا هي السياسة اليوم. فمهما قيل عن أثر المواجهة التجارية والتكنولوجية مع الصين، فإن الجميع سيمضي قدما، لا أحد يريد أن يلعب دور الضحية.
من أين ستأتي الأزمة إذا؟ الجميع قلق على معدلات الفائدة، لكن لا معنى للتعبير عن هذا القلق إذا كانت معدلات الفائدة "السلبية" قد أصبحت ظاهرة في بعض الدول. ولتصحيح المقالة فإنه لا قلق واضح على المصارف والنظام المالي كما يرى البعض فالأموال متوافرة لكن استخداماتها قليلة، هناك كثير من الشركات لم تعد قادرة على التوسع في ظل مظاهر تراجع النمو العالمي والتباطؤ، وهذا يعني استمرار خسارة عدد كبير من الأفراد للوظائف، كما أن تراجع الفائدة أدى إلى تراجع قدرة المؤسسات العامة والتأمين على إنتاج ما يكفي لتغطية الاحتياجات التأمينية وهذا قد يؤدي إلى مزيد من تطبيق سياسة ضريبية أكثر تشددا، ما يغذي التباطؤ أكثر، وإذا صاحب ذلك -وهو يصاحبه دائما- زيادة مشكلات المناخ مع زيادة تحمل الأعباء الناتجة عنه فإن المشهد يكون قد تجاوز مرحلة المقلق. الثروات الكبرى التي يعول عليها تتجه إلى شركات الإنترنت، فصعود شركات الإنترنت العملاقة، التي تعتمد على أجهزة رقمية تجمع كما هائلا من البيانات تنتج الثروة باستمرار ولا تحفز الاستهلاك الطبيعي، ولذا أصبحت تقلق دولا مزدهرة مثل ألمانيا فكيف بدول أخرى تشهد موجات غضب جماعي، مثل لبنان وتشيلي وكولومبيا، وكذلك فرنسا؟ فالاقتصاد العالمي بين ثروات موجودة تنتج اقتصادا يتباطأ مع ابتكار محدود التأثير، وموجات غضب تتنامى، فهل ستأتي الأزمة أم أنها هناك الآن فعلا؟

إنشرها