Author

ما الذي يرعب في الاقتصاد العالمي اليوم؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

يكثر الحديث اليوم عن حجم الدين العالمي، وعن تضخم العجز الأمريكي، وأزمة مالية ضخمة في الأفق، لكن العيب الرئيس في هذا التحليل والمناقشات الدائرة حول هذه القضايا في كونها تنطلق من علم الاقتصاد المدرسي، وتلك المفاهيم والتشابكات التي يصعب تصور عملها اليوم، ولهذا يعم الرعب إذا تمت قراءة الدين العالمي من خلال قراءة الكتب الاقتصادية المدرسية ويتساءل أحدهم كيف يجد العالم مالا ليسدد كل هذه الديون؟ وأنا أقول لم يعد هناك قلق على تدفق السلع والخدمات من الديون، بل هي تتنامى مع الديون، لكن الاقتصاد العالمي اليوم بحاجة إلى تصورات جديدة تماما، وشخصيا أعتقد أن القلق يأتي من أمرين هما الحرب وانقطاع الإنترنت. وإذا كان خطر الحرب معروفا على تدفق السلع والخدمات فما مشكلة الإنترنت؟
من الغني عن القول إن النظام المالي اليوم يعتمد بشكل أساس على خدمات التقنية والاتصالات، ولعل الشمول المالي الذي تسعى إليه الدول يعني قدرة النظام المالي فيها والخدمات المصرفية على الوصول إلى كل فرد في الدولة، وهذا لم يكن ليتحقق لولا تقدم الاتصالات اليوم، وخدمات الإنترنت على وجه الخصوص، لكن الأهم من هذا وذاك هو تحول النقد من الورق "الكاش" إلى الأرقام الإلكترونية، فكل الإنتاج الذي يقوم به الموظف أو العامل إنما يتحول بسهولة من خلال شبكات الإنترنت إلى أرقام إلكترونية يستطيع الشخص استبدالها بأي سلعة أو حتى بأي ورقة نقدية من أوراق العالم، وبذلك فإن قدرة الاقتصاد على إنتاج الأرقام الإلكترونية لم تعد مرتبطة بشكل كبير بمسألة قدرة الحكومة على طباعة النقد الورقي، بل بقدرتها على "إيجاد طريقة" مقنعة لإنتاج الأرقام الإلكترونية. وللفهم نفترض أن دولة ما يعمل فيها شخص ساعات من العمل قيمتها 100 ورقة من عملة الدولة، أي أنه بمجرد تقديم هذا الإنتاج يستحق الثروة، ووضعتها الدولة في شكل ورقة حكومية يمكنه نقلها للآخرين، ويمكنه وضع 50 منها وديعة عند مصرف تجاري. المصرف يمكنه "نظاما" من إعادة إقراض الـ50 ورقة هذه إلى الغير وهو ما نسميه إنتاج النقد لأن كمية النقد المتاحة في السوق "كقوة شرائية" أصبحت 150 (50 مع الشخص و50 في المصرف يمكنه استخدامها شيكات و50 أقرضها المصرف للغير). نلاحظ أن المصرف أنتج النقد للسوق بهذه الطريقة لكنه لم ينتج الورق، فالنقد وصل من خلال الائتمان إلى 150 لكن المتوافر لم يزل كما هو 100 فقط، ولذا لو قرر الشخص فجأة العودة للمصرف وسحب جميع رصيده (50 كاملة) فإن على المصرف أن يعلن إفلاسه لأنه سبق ومنحها شخصا آخر أو عليه أن يذهب إلى الدولة أو إلى أي مصرف آخر ويقترض المبلغ، في هذه البيئة نكون قلقين جدا من عدم توافر الورق لسداد الديون وهكذا كانت الأمور قبل أن تظهر الأرقام الإلكترونية في المصارف.
والآن نعود إلى المشهد مرة أخرى، ونجد أن أحدهم عمل ساعات في الدولة وتم منحه أرقاما إلكترونية في حساباته "بمعنى أن الدولة لم تعد تعطيه ورقا"، بل رقما (100 كما في المثال) ويستطيع أن يراه في أي مكان عبر شاشة الحاسب أو الجوال في البيت أو العمل أو من خلال أجهزة المصارف، ويستطع أن يستخدمه "كرقم" لشراء ما يريد، كما أن المصرف ينتج من خلاله أرقاما للآخرين كقرض بـ50 -كما في المثال- وبهذا أصبح في المجتمع 150 رقما، والسؤال الآن: فيما لو عاد الشخص إلى المصرف وطلب كامل رصيده 100 كاملة، فإنه سيمنحه دون أن يضطر إلى إعادة الاقتراض، حيث إن الـ50 الأخرى الموجودة ليست ورقا ولن يتم طلبها منه ورقا، ولم يعد المصرف مضطرا لأن يعلن إفلاسه أو حتى أن يقترض لمواجهة طلبه، والسؤال الأهم: هل فعلا المصرف مدين لي بالأوراق أو يمكنه رفض ذلك، حيث إنني لم أعطه ورقا في الأصل بل مجرد أرقام؟ لهذا نذهب إلى المصرف أحيانا ونطلب مبلغا كبيرا على شكل ورق ويرفض المصرف الدفع حالا؟ والصورة واضحة بشكل غريب، فالمصرف أنتج 50 من أرقامي لديه لكن لم تعد تلك الأرقام مرتبطة بعضها بعضا فعلا. وإذا تتبعنا السؤال: هل يمكن للمصرف إنتاج أرقام في نظام مغلق لأي سبب كان دون أن يكون في مقابلها أرقام أخرى؟ فمثلا هل يمكن للمصرف أن يدعي أن مؤسسة أو شركة أو شخصا أودع مبلغا مهما كان ومهما كانت ضخامته، لكن المصرف والشخص يعرف أنه لن يتم استخدامه خارج دورة حسابات المصرف، حيث يستخدم هذا الرقم (المبلغ) لتنفيذ عملية سداد أو حركة حساب أو تضخيم قيمة شيء ما (داخل المصرف)، حيث يستخدم المبلغ نفسه في إطفاء الرصيد مرة أخرى، بل قد يتم بين المصارف في نظام مغلق بهدف تضخيم أو نقل الأسهم أو الديون من (أ) إلى (ب) بشكل يبدو كأنه ليس هناك علاقة بينهما، لكن في الحقيقة لم يتم تداول أي مبلغ. هل يمكن فعلا نقل سلع بين جهتين من خلال أرقام يتم ابتكارها بينهما؟
والآن نعود إلى المشهد من جديد، قام شخص بإنتاج ساعات عمل للدولة تم منحه أرقاما إلكترونية، وبغض النظر هل هذا الشخص يمثل شخصا طبيعيا أو شركة، فكيف قامت الحكومة بإنتاج الأرقام ابتداء؟ وإذا واصلت تتبع السؤال بهذه الطريقة تجد نفسك أمام متاهة عالمية كبرى، والأرقام اليوم تنتج بطريقة مفزعة جدا وغير مفهومة وفقا للاقتصاد المدرسي، وأصبحت المسألة كلها مرتبطة بجهاز حاسب آلي، لو انقطعت كبلاته لأصبح العالم في فوضى ائتمان هائلة جدا، وأصبحت السلع فجأة متاحة وبكميات بلا وسيلة تبادل يمكن الوثوق بها، ولا أعرف أي سيناريو مرعب يمكن أن يحدث.

إنشرها