الوظائف الخضراء وحماية البيئة «1من 3»
أثير جدل حاد بسبب خطة عمل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، بشأن المناخ لعام 2013 وخطته المعنية بالطاقة النظيفة لعام 2015. فقد استنكر المقترحين ميتش ماكونيل، زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، قائلا في كلمة أمام المجلس إن إعلان "الحرب على الفحم" هو بمنزلة إعلان "حرب على الوظائف، وكأنك تسد السبل أمام أي أمريكي يعاني تحت وطأة اقتصاد اليوم".
ويشيع بين صانعي القرار الحكوميين شمالا وجنوبا، وكذلك بين كبار رجال الأعمال، تصور بأن هناك مفاضلة - تعارضا متأصلا بين حماية المناخ والبيئة من جهة وبين الرخاء الاقتصادي وفرص العمل من جهة أخرى.
وتساور الناخبين الشكوك في هذا الصدد أيضا. ففي استطلاع رأي سنوي يجريه مركز "بيو" للأبحاث عن أهم ما يشغل الناخب الأمريكي، تبين أن الآراء التزمت نمطا واضحا على مدار العقد الماضي. فخلال سنوات النمو المرتفع التي تكثر فيها فرص العمل، أظهر الاستطلاع أن الموضوعين الأهم بالنسبة للرأي العام الأمريكي هما أولا الاستدامة البيئية، وثانيا الوظائف ودخل الأسرة بنسبة 47 في المائة لكل منهما. إلا أن بداية الشعور بآثار "الركود الكبير" في عام 2009 جعلت الخوف من فقدان الوظيفة يتصدر اهتمامات الجمهور الأمريكي بنسبة 82 في المائة وتراجعت المخاوف البيئية إلى 41 في المائة، بينما انزوى الانشغال بتغير المناخ مسجلا 30 في المائة فقط.
وعندما تصبح الوظائف هي الأولوية ويتصور أن حماية البيئة تسبب فقدان الوظائف، يصعب استجماع الإرادة السياسية.
ولكن هل علينا بالفعل أن نختار بين حماية البيئة وإتاحة عدد كاف من الوظائف الجيدة؟
للإجابة عن هذا السؤال تبعات جسيمة في عالم يبلغ عدد العاطلين عن العمل فيه 200 مليون نسمة، بينما يشغل نصف العاملين تقريبا وظائف غير مستقرة وغير مجزية في الأغلب وسيتعين توفير 400 مليون وظيفة إضافية لمواجهة البطالة التي ارتفعت ارتفاعا حادا إثر الركود الكبير وإتاحة فرص للشباب الباحث عن فرص عمل الذي سيدخل سوق العمل على مدار العقد المقبل، ومعظمه في الاقتصادات النامية.
قد تفضي نظرة سطحية إلى التماس العذر للمتخوفين، حيث إن القطاعات الأكثر إسهاما بشكل مباشر في تغير المناخ وغيره من العوامل المسببة لتدهور البيئة هي الزراعة وصناعة صيد الأسماك والحراجة والطاقة والتصنيع كثيف الاستهلاك للموارد وإدارة النفايات والتشييد والنقل. وهذه القطاعات هي ما تستهدفه السياسات المعنية بتخفيف آثار تغير المناخ، وهي توظف مجتمعة أكثر من 1.5 مليار شخص، أي نحو نصف القوة العاملة على الصعيد العالمي.
إلا أن الأدلة التي تراكمت على مدار العقد الماضي تشير إلى أن مكافحة تغير المناخ لا تشكل عقبة أمام نمو سوق عمل نشطة. والوظائف الخضراء - أي الوظائف التي تحد من تأثير النشاط الاقتصادي في البيئة - تكتسب أهمية بالغة في التحول إلى اقتصاد يتسم بدرجة أعلى من الاستدامة البيئية. وتندرج هذه الوظائف تحت فئتين عامتين هما إنتاج السلع البيئية، مثل طواحين الهواء والمباني ذات الكفاءة في استهلاك الطاقة، والخدمات مثل إعادة التدوير والأعمال المتعلقة بخفض الانبعاثات واستهلاك الطاقة والموارد، ومن ذلك أعمال السلامة البيئية وسلامة مكان العمل ومنشآته والإدارة اللوجستية.
وهناك إجراءان أساسيان لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وهما تنفيذ نظام إنتاج الطاقة منخفض الكربون، وخفض الانبعاثات الناتجة من استخدام الأراضي نتيجة لأعمال إزالة الغابات.
مكافحة تغير المناخ لا تشكل عقبة أمام نمو سوق عمل نشطة ولإنتاج طاقة أنظف، يتعين خفض استخدام الوقود الأحفوري الذي يطلق ثاني أكسيد الكربون عند استخدامه لتوليد الكهرباء أو للتدفئة والنقل. ويمكن الاستعانة على ذلك مؤقتا بإحلال وقود أحفوري أقل تلويثا مثل الغاز الطبيعي محل الوقود الأحفوري شديد التلويث مثل الفحم والنفط الثقيل. ولكن في نهاية المطاف، ستكون الطاقة المتجددة مثل الكهرباء التي تولدها المياه والرياح والشمس التي تولدها الكتلة البيولوجية المستدامة هي السبيل لمنع الانبعاثات من تجاوز قدرة مصارف الكربون في الغلاف الجوي والمحيطات على استيعابها.
وقد بدأت الصناعات المنتجة للطاقة المتجددة في إتاحة عدد كبير من الوظائف. ويقدر عدد الوظائف التي أتاحتها صناعة الطاقة المتجددة بشكل مباشر وغير مباشر بنحو 2.3 مليون فرصة عمل في عام 2006 حسب واحد من أول التقييمات العالمية الصادرة في هذا الخصوص. ثم تلته تقييمات مقارنة رفعت هذا الرقم إلى 7.7 مليون وظيفة في عام 2014.
ويقع أكثر بكثير من نصف هذه الوظائف في اقتصادات السوق الصاعدة مثل البرازيل والصين والهند التي تؤدي دورا رئيسا في التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل التسخين الشمسي والطاقة الشمسية، والغاز الحيوي، والوقود الحيوي.
وقد شهد الاستثمار في الطاقة المتجددة نموا سريعا، وإن تباطأ إلى حد ما بعد عام 2011، وحدثت زيادة هائلة في السعة المركبة، إلا أن التوسع في استخدام الطاقة المتجددة لم يأت بعد على حساب الوقود الأحفوري، فهل سيترتب على ذلك فقدان الوظائف؟ ألا تتسبب الطاقة المتجددة في خفض الوظائف، لأنها غالبا ما تكون أعلى تكلفة من البديل الأحفوري؟ وهل يختلف الحال إذا كانت هناك ضرورة لاستيراد المعدات اللازمة لإنتاج الطاقة المتجددة؟ هذه الأسئلة تشير إلى نقطة مهمة، وهي ضرورة إجراء تقييم يغطي الاقتصاد بالكامل ويعنى بالآثار الاقتصادية والآثار التي تقع على العمالة بسبب التحول إلى طاقة منخفضة الكربون... يتبع.