وأورد ابن قتيبة في كتابه "المعاني الكبير" أبياتا من قصيدة المثقب العبدي من ضمنهما:
يصيخ للنبأة أسماعه
إصاخة الناشد للمنشد
فنخب القلب ومارت به
مور عصافير حشى المرعد
ثم شرح ابن قتيبة البيت الثاني قائلا "يقول فزع، ومارت به قوائمه من الفزع من الكلاب مور عصافير، وهذا مثل يقال طارت عصافير رأسه من الفزع، أي كأنما كانت عصافير على رأسه فطارت منه. ونحو منه:
فلما أتاني ما يقول ترقصت
شياطين رأسي وانتشين من الخمر"
وقال الميمني في سمط اللآلي، "وأنشد أبو علي:
ونكل الناس عنا في مواطننا
ضرب الرؤوس التي فيها العصافير
هو لحميد بن ثور... وفسر أبو علي العصافير في هذا الشعر فقال: إنه جمع عصفور، وهو العظيم الذي تنبت عليه الناصية وعلى ذلك استشهد به. وقال غيره العصافير: كناية عن الكبر والخيلاء، وهو الصحيح، والعرب تقول طارت عصافير رأسه إذا ذهب كبره، قال الشاعر:
مليء لرأس أخي نخوة
بضرب يطير عصافيره
ولو أراد العظام التي ذكر أبو علي لم يكن للكلام فائدة، لأن في كل رأس عصفورا فكأنه قال: ضرب الرؤوس التي فيها الشعر، وإنما يريد الرؤوس التي فيها الزهو والطماح إلى ما لا تناله". وفي كتاب " التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه" لأبي عبيد البكري رد على كلام أبي علي القالي قال فيه "لو أراد الشاعر بالعصافير هنا العظام لم يكن للكلام فائدة، لأن في كل رأس عصفور، فكأنه قال: ضرب الرؤوس التي فيها الشعور؛ وإنما يريد الرؤوس التي فيها الزَّهو والطِّماح إلى ما لا تناله. والعرب تكني بالعصافير عن الكبر والخيلاء وتقول: طارت عصافير رأسه: إذا ذهب كبره؛ قال الشاعر:
كفِيلٌ لرأسِ أَخِي نَخْوَة
بضرب يُطِيرُ عصافِيرَه
كما يقولون "في رأس فلان نعرة".
وفي كتاب "الإملاء المختصر في شرح غريب السير" لأبي ذر الخشني قال "وقول الفرزدق في شعره: على قرزل، هو اسم فرس كانت لطفيل بن مالك، وقوله: على أم الفراخ، يعني الدماغ، والجواثم الساكنة اللاطئة مع الأرض، وهي استعارة كما يقولون "طارت عصافير رأسه" وهي استعارة أيضا. فهو يضيف أن الدماغ يكنى استعارة بأم الفراخ.
وذكر أبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزاهر" قول الناس "جلساء فلان كأنما على رؤوسهم الطير"، ثم ذكر في تفسيره قولين "أحدهما أن يكون المعنى أنهم يسكنون فلا يتحركون ويغضون أبصارهم والطير لا تقع إلاّ على ساكن، يقال للرجل إذا كان حليما وقورا إنّه لساكن الطائر، أي كأنّ على رأسه طائرا، لسكونه قال الشاعر:
إذا حلَّتْ بنو أسد عُكاظا
رأيتَ على رؤوسِهِم الغُرابا
فمعنى البيت أنهم يذلون ويسكنون كأن على رؤوسهِم غرابا من سكونهم، وإنما خص الغراب لأنه أحذر الطير وأبصرها يقال أَحْذَرُ من غُراب، وأَبْصَرُ مِنْ غُراب، ويقال للرجل إذا ذُعِرَ من الشيء قد طارتْ عصافِيرُ رَأسِهِ، كأنه كان على رأسه عند سكونه طير فلما ذُعِر طارت، قال الشاعر:
فنخب القلب ومارت به
مور عصافير حشا المرعد
والقول الثاني أن الأصل في قولهم كأنما على رؤوسهم الطير أنّ سليمان بن داود عليهما السلام كان يقول للريح أَقِلينا وللطير أَظِلينا، فتقله وأصحابه الريح وتظلهم الطير، وكان أصحابه يغضون أبصارهم هيبة له وإعظاما ويسكنون فلا يتحركون ولا يتكلمون بشيء إلاّ أن يسألهم عنه فيجيبون، فقيل للقوم إذا سكنوا: هم حلماء وقراء كأنما على رؤوسهم الطير، تشبيها بأصحاب سليمان. ومن ذلك الحديث الذي يروى "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم أَطْرَقَ جُلساؤُهُ كأنّما على رؤوسهم الطير". وأورد الآبي في كتاب "نثر الدر" أمثالا عديدة تتعلق بالطيور، وأحدها يقول "لا تأكل حتى تطير عصافير نفسك"، لكنه لم يشرحه.
وما زال هذا المثل مستخدما في بعض المجتمعات العربية مع اختلاف يسير، ففي منطقة نجد وغيرها يقولون "طارت عصافير عقله"، إذا أصيب الرجل بذهول شديد، أو روعة، أو خوف، أو مصيبة أخرجته من صوابه، وأذهلت عقله. وهناك مثل شهير في مصر ذكره محمود عمر الباجوري في كتابه "أمثال المتكلمين من عوام المصريين"، المطبوع عام 1311هـ بلفظ "طار عقله من رأسه"، وبلفظ "طار برج من عقله"، ولعل المقصود بالبرج هو فصوص المخ، وليس برج الطيور، فإن كان الثاني هو المقصود فهو شبيه للمثل العربي، وربما مشتق منه.
أضف تعليق