Author

احذروا من انهيار النظام المالي العالمي

|

يميل العقل البشري إلى تفسير كثير من الأحداث التي تقع، بمنطق المؤامرة، التي في الغالب يتم اتهام مراكز قوى خفية أو حكومات بأنها هي المسؤولة أو المستفيدة، أو أيا ما كان نتيجة هذا الحدث، تنتشر نظريات المؤامرة بين شعوب العالم، وتختلف الاتهامات أو التفسيرات حسب كل مجتمع، وإن كانت هنالك نظريات يشترك حولها كثير من الشعوب، لكن أين الحقيقة من الخيال فيها؟ هنا قد تكون الإجابة صعبة، ويجب تفصيل كل حالة، لكن أعتقد أن كثيرا منها بعيد عن التفسير الصحيح. وعموما، لن أخوض كثيرا فيها، رغم وجود نظريات مؤامرة في كل القطاعات، مثل نظريات المؤامرة في السياسة، الاقتصاد، الغذاء، الأدوية، العلوم، الفلك، الأديان، حتى في الرياضة، "وما أكثر المؤمنين لدينا بنظريات المؤامرة في الرياضة المحلية" وغيرها، وسأركز هنا على المؤامرات الاقتصادية أو المالية، وما أكثرها؛ حيث نبتدئ بأشهرها، التي تتحدث عن وجود عائلات معينة فاحشة الثراء، تسيطر على ثروات الأرض، وتمتلك أغلب الأصول حول العالم، خصوصا من الذهب "كما يسوق لها مؤيدوها"، وتسيطر على البنوك المركزية، وهي من تقود الثورات والحروب، وهي المتسبب في كثير من الحوادث حول العالم، وغيرها كثير من الحديث حولها. العجيب أنه من الملاحظ أن الحديث عن المؤامرات الاقتصادية كثر تداوله في الآونة الأخيرة، وإن كان يعود إلى عقود من الزمن، لكن يزداد الحديث عنه في آخر خمس سنوات على الأقل في مجتمعنا المحلي، قد تكون التغيرات السريعة في التقنية، أو التعقيدات في المنتجات المالية، قد رفعت مستوى عدم اليقين والتخوف منها، وبالتالي عززت ميل الناس إلى تبني نظريات المؤامرة، يتم حاليا - ومع الأسف - تداول معلومات خاطئة لدعم هذه النظرية بالذات، وأنا هنا سأتناول إحدى هذه النظريات المتفرعة عن النظرية الأم، التي تعنى بوجود عائلات مسيطرة على الاقتصاد العالمي، وهي نظرية ملكية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وعمله.
تقول هذه النظرية إن الاحتياطي الفيدرالي "وهو بمنزلة البنك المركزي في الدول الأخرى"، تملكه وتسيطر عليه عائلات يهودية غنية، وهم أساس القطاع المصرفي في أمريكا، وبالتالي من يسيطر على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يستطيع أن يدير الاقتصاد حول العالم، وكذلك يتم تسويق معلومة بهدف دعم نظرية أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو البنك المركزي الوحيد حول العالم الذي لا تسيطر عليه الدولة، ومملوك للقطاع الخاص، وهو المسؤول عن الدولار الأمريكي.
أولا: لفهم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يجب أن نفهم نشأته، ولماذا الحكومة لا تديره. يعود تأسيس "الفيدرالي" إلى عام 1913، لكن محاولات تأسيسه حصلت قبل ذلك، عن طريق ألدريتش عضو الكونجرس الأمريكي، عقب أزمات تعرضت لها المصارف الأمريكية أوائل القرن الـ20، سببت حالات من الذعر للمودعين، دفعتهم إلى سحب أموالهم من المصارف، ما سبب أزمات للقطاع بالكامل، في وقتها لم يكن هنالك بنك مركزي يحتوي المصارف، ويضم - كما تعمل أغلب البنوك المركزية - جزءا من الإيداعات كاحتياطي لهذه المصارف، ويدعم استقرار أي بنك يقع تحت ضغط سحب المودعين. قام ألدريتش بدراسة النظام المصرفي الأوروبي، الذي كان يعمل بنظام وجود بنك مركزي تشرف عليه الدولة، ويدعم استقرار المصارف، وأراد نقل هذا النموذج إلى الولايات المتحدة، لكن كان ألدريتش يعلم أن هذا النموذج لن يتم القبول به في أمريكا بسبب معارضة الأمريكان للمركزية والسيطرة الحكومية على القطاعات الخاصة والاقتصادية وبالذات المالية، وهذا من المميزات الفريدة للمبادئ السياسية والاقتصادية الأمريكية؛ حيث يتم تقليل دور الحكومة قدر الإمكان، لكن رغم ذلك قدم قانونا لتشريعه يعرف بـ Aldrich–Vreeland Act رغم أنه لم يمرر وقتها، إلا أنه كان هو الأساس الذي بني عليه عام 1913، وتم إقراره من قبل المجلس كحل وسط يجمع بين تميز الأمريكان برغبتهم في استقلالية النظام المالي عن سيطرة الحكومة، وبين إشراف الحكومة عليه في الوقت نفسه.
يعمل "الفيدرالي" بنظام فريد، فهو مركزي وغير مركزي، وحكومي وغير حكومي، بحيث يحكم "الفيدرالي" مجلس يتكون من 12 عضوا يمثلون المصارف الفيدرالية الإقليمية، بحيث يغطي كل بنك إقليمي عددا من الولايات، وكل بنك إقليمي تملكه - "ليست ملكية متداولة، وإنما ملكية إجبارية كجزء من الاحتياطيات" - المصارف التي تقع تحت تغطيته وإدارته، وهذا يقودنا إلى تفريعات متعددة للسلطة، وهو يهدم تماما نظرية ملكية العائلات، كذلك الحكومة الأمريكية مسؤولة عن تعيين سبعة أعضاء، يعينهم الرئيس الأمريكي، يمثلون عددا من المصارف الإقليمية، والبقية يتم تعيينهم من المصارف الإقليمية الأخرى. إذن من الواضح وبشكل تام أن العملية أعقد مما يتصوره كثير من ناحية السيطرة والقرارات والإدارة، بحيث تتشارك الحكومة والقطاع الخاص في اختيار الأعضاء بنظام متميز، ويحقق الوسطية في السيطرة والتدخل الحكومي.
من ناحية أخرى، هنالك لبس في فهم عمل "الفيدرالي" نفسه، بحيث يعتقد كثيرون أن "الفيدرالي" هو الذي يقرر حجم ما يطلق عليه البعض "طباعة الدولار"، وهذا غير دقيق؛ حيث إن قرار ما يسمى "طباعة الدولار" يعود إلى وزارة الخزانة الأمريكية، وأما "الفيدرالي" فدوره الإشراف والتنفيذ والنقل وتوزيعه على المصارف، وهذا بالتالي ينسف كل ما يقال في النظرية حول الدولار ومن يقرر عملية طباعته.
في النهاية، هنالك جوانب أخرى كثيرة للطعن في هذه النظرية، لكن لا يتسع المقال لذكرها كلها، والعجيب استمرار تداول الناس لهذه النظرية، والأعجب تداولها بعض الأحيان ممن يعتقد أنهم على علاقة ومعرفة بالاقتصاد والمال، وهو يثير علامات التعجب فعلا؛ حيث إن هذه النظرية تعارض تماما الحقائق المنشورة، التي يستطيع من أراد التأكد الوصول إليها بسهولة، وكذلك من الملاحظ ربط هذه النظريات بكارثة انهيار الأسواق المالية والاقتصاد حول العالم، التي يُروّج لها كل سنة، وتبشر بقرب انهيار النظام المالي العالمي وحلول نظام جديد، ويتم تصديقها من كثير، ويدافع عنها كذلك، وعليه قرر عديد منهم تحويل جزء كبير من ثرواتهم إلى الذهب. وبعضهم ظل على هذه الحال منذ سنين، وكل سنة يقول الانهيار سيقع هذه السنة. ولكن حتى الآن لا الأسواق انهارت، ولا النظام المالي العالمي انهار، ولا الذهب ارتفع سعره.

إنشرها