مستقبل الصناعة في أوروبا
كان الاتحاد الأوروبي على مدى السنوات الماضية، في مواجهة ضرورة تهدئة الأسواق الغاضبة المنزعجة وإرساء أسس التعافي المتين، يركز إلى حد كبير على الاستقرار المالي وتقليص العجز والديون. والآن مع هدوء التوترات المالية وعودة الثقة، يتعين على زعماء أوروبا أن يحولوا تركيزهم في الأعوام المقبلة إلى الاقتصاد الحقيقي والقاعدة الصناعية.
ولتحديد أفضل السبل للمضي قدما، يتعين على زعماء أوروبا أن ينظروا إلى الماضي. والواقع أن الاستثمار في التصنيع - أحد محركات النمو الرئيسة في أوروبا تاريخيا - يحمل المفتاح إلى إنعاش الاقتصاد الأوروبي.
على مدى العقد الماضي، كانت السياسة الصناعية تحتل مرتبة ثانوية لصالح القطاعات المالية والخدمية. وعد التصنيع حرفة من الماضي، ولم تعد أوروبا موقعا مناسبا للصناعة التنافسية. ومنذ ذلك الحين خضعت بلدان أوروبية عديدة لعملية خفض التصنيع. فانحدر الإنتاج الصناعي في إيطاليا - على سبيل المثال - بنحو 20 في المائة.
ورغم هذا، فإن القطاع الصناعي يظل يلعب دورا رئيسا في اقتصاد الاتحاد الأوروبي، حيث يوظف أكثر من 34 مليون شخص ويمثل نحو 80 في المائة من الصادرات، في حين يمد مجال البحث والتطوير بنسبة كبيرة من الاستثمار الخاص. وبالتالي، فإن التصنيع يؤثر في كل القطاعات الأخرى في الاقتصاد الأوروبي، بما في ذلك قطاع الخدمات.
الواقع أنه على الرغم من تحول تركيز صناع السياسات والمنافسة من قبل الاقتصادات الناشئة، فإن البلدان الأوروبية تظل بين الدول الأعلى أداء في مجال التصنيع على مستوى العالم، نظرا للشركات العديدة التي تمكنت من التكيف والإبداع. وبفضل هذه الشركات تمكنت إيطاليا من تجاوز صناعاتها التقليدية - الأغذية والأزياء والأثاث - إلى قطاعات متطورة مثل الصيدلة البيولوجية، والميكاترونيكس، والفضاء.
وتشهد مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي تحولا مماثلا نحو الأنشطة التصنيعية ذات القيمة المضافة الأعلى. وتشير هذه التطورات إلى أن نجاح أوروبا في المستقبل سيتوقف على قدرتها في الجمع بين أسباب قوتها الاقتصادية التقليدية والإبداع القوي.
وينبغي لبلدان الاتحاد الأوروبي أن تعمل على إيجاد الظروف التي يحتاج إليها القطاع الصناعي المزدهر. على سبيل المثال، سيساعد برنامج المقصد، الذي أطلقته إيطاليا أخيرا، الشركات الإيطالية على النجاح من خلال إنشاء نظام ضريبي أكثر وضوحا وقابلية للتوقع، والحد من الروتين البيروقراطي، وضمان إنفاذ العقود بشكل أكثر فعالية من خلال تعزيز قوة نظام العدالة المدني. ومثل هذه البيئة من شأنها أن تمكن الشركات من النمو، في حين تعمل على اجتذاب الاستثمار الخاص الأجنبي والمحلي.
ولكن الجهود الوطنية وحدها لا تكفي. فالشركات الأوروبية مندمجة في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية. فالمكونات المنتجة بواسطة شركة في بريشيا قد تذهب إلى معدات تنتجها شتوتجارت، وربما يتم تجميعها بعد ذلك كمنتج نهائي في ملقا. وفي هذا السياق، لا تستطيع أي شركة بمفردها أن تحقق كامل إمكاناتها ما لم تكن كل الشركات ناجحة.
ويتلخص النهج الأكثر فعالية لاستعادة القدرة التنافسية الأوروبية في الجمع بين مواطن القوة الفردية التي تتمتع بها بلدان الاتحاد الأوروبي المختلفة، وبالتالي تكوين سلاسل عرض أوروبية متزايدة الإنتاجية - أو الاستيلاء على المراتب العليا في سلاسل العرض العالمية. وهذا يتطلب تعميق الروابط بين الاقتصادات الوطنية وتعزيز سوق مشتركة حقيقية غير مقيدة تعمل على دمج مواطن القوة النسبية للبلدان المختلفة.
ولتحقيق هذه الغاية، فإن السياسات الأفضل توجيها على مستوى الاتحاد الأوروبي تشكل ضرورة أساسية. وسيتطلب الحفاظ على القدرة التنافسية عالميا الاستثمار في المحددات الرئيسة للإنتاج الصناعي في المستقبل: كفاءة الطاقة والإبداع التكنولوجي. وعلى هذا، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يكون حريصا على تنفيذ التدابير الكفيلة بدعم القدرة التنافسية للصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة، مع التركيز بشكل خاص على تقليص فجوة أسعار الطاقة مع منافسي أوروبا الصناعيين، مثل الولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة. وتشكل سوق الطاقة الداخلية الفعالة أهمية بالغة لتوفير الطاقة بأسعار معقولة.
وهناك مبادرة أخرى مهمة قائمة بالفعل - منطقة البحوث الأوروبية. ولابد من تنفيذ هذه المبادرة. فمن خلال إنشاء أجندة مشتركة لبرامج البحوث الوطنية وتسهيل تداول المهارات والمعرفة العلمية - السماح لمركز متطور للعلوم الميكانيكية في إيطاليا على سبيل المثال باجتذاب الباحثين من فنلندا أو البرتغال - تعد منطقة البحوث بإيجاد البيئة المثلى للإبداع.
وبعيدا عن البحث والتطوير، فإن الاقتصاد الصناعي القائم على الإبداع والابتكار يتطلب عمالة تتمتع بمهارات محددة عالية المستوى. وتتطلب تلبية هذا الطلب انتهاج الاتحاد الأوروبي لسياسات تشجع التعليم الثانوي والعالي.
ومن أجل إيجاد أسواق متعددة الأبعاد وأكثر عمقا وتكاملا، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعطي أولوية عالية لاتفاقيات التجارة الحرة، خاصة شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي التي يجري التفاوض عليها الآن مع الولايات المتحدة. ومثل هذا التكامل التجاري - وفي نهاية المطاف إنشاء سوق مشتركة عبر أطلسية - من الممكن أن يصبح من أكثر آليات النمو فعالية في أوروبا، خاصة بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، في العقود المقبلة.
وتحتاج شركات التصنيع الأوروبية أيضا إلى قدرة أفضل كثيرا على الوصول إلى التمويل. كان تقنين الائتمان المستمر من موروثات الأزمة المالية الأشد ضررا على الإطلاق. ففي بعض البلدان يرفض نصف طلبات القروض، كما بلغت تكاليف التمويل مستويات باهظة إلى حد التعجيز.
ليس هناك من الأسباب ما يبرر أن تكون تكاليف القروض في بوزن "بولزانو" ضعف نظيراتها في إنسبروك القريبة؛ والواقع أن هذه الفوارق الظالمة لا تفضي إلا إلى تقويض المنافسة وجلب الركود الاقتصادي. وإذا لم يسارع زعماء الاتحاد الأوروبي إلى حل هذه المشكلة، بما في ذلك من خلال السعي إلى إنشاء اتحاد مصرفي تام النضج، فإن التأثيرات الإيجابية المترتبة على جهود الإصلاح ستذهب أدراج الرياح بسبب الافتقار إلى استثمارات جديدة.
إن العودة إلى التصنيع - جنبا إلى جنب مع مكافحة البطالة بين الشباب - لابد أن تكون على رأس أجندة أوروبا، بهدف إنشاء قطاع صناعي يمثل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020. ولن يتسنى هذا إلا من خلال تعميق تكامل الاتحاد الأوروبي. والواقع أن الاتحاد المتزايد التقارب والاندماج يمثل أمل أوروبا الوحيد لبناء اقتصاد حديث ومبدع ومزدهر.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت