Author

الحوكمة القضائية .. مبدأ الوضوح «4»

|

استمرارا للكتابة عن الحوكمة القضائية؛ أود اليوم الحديث عن مبدأ مهم من مبادئ الحوكمة، وهو الوضوح.
نلاحظ أن جميع مبادئ الحوكمة تدور على منع أي باب يمكن أن يُستغل للفساد لتغلقه وتستمر في مراقبته ومتابعته، وهكذا مبدأ الوضوح هنا، حيث يركز على ضرورة الوضوح في كل شيء لإغلاق الباب على احتمال تفسير الغموض لصالح الفساد. حيث إن جودة الحوكمة تكمن في أنها تفترض أي مجال يمكن أن يساء استغلاله ولو مجرد احتمال، ومن ثم تسعى إلى إغلاق ذلك الباب ومراقبته.
عندما يكون القانون والإجراء واضحين؛ فإن مراقبتهما تكون ممكنة وتقلل احتمال الفساد ودواعيه، والعكس صحيح؛ حيث عندما يكون القانون أو الإجراء غير واضح ويختلف من موقع إلى آخر؛ فإن هذا يفتح المجال للتدخل المقصود والتأثير في مسار العدالة بشكل سلبي، ودور الحوكمة هنا إغلاق هذا الاحتمال قبل وقوعه ومراقبته.
من أهم وأكبر جوانب هذا المبدأ؛ ضرورة كتابة القانون الواجب التطبيق ونشره للناس، حيث إن عدم وجود قانون واضح يتم الرجوع إليه ليفصل في النزاع بوضوح هو أحد أهم أبواب الفساد في أي بلد، ومن هنا تأتي أحد أهم ضرورات التقنين للشريعة التي كتبنا عنها مرارا، حيث إنه دون تقنين الشريعة؛ فإنه لا يمكن مراقبة الأحكام بشكل واضح، ولا يمكن عقلا حتى إغلاق شبهة واحتمال الفساد، حيث إن الفاسد لا يمكن رصده أصلا طالما لا توجد آلية واضحة لمراقبة أحكامه.
نعلم أنه حتى اليوم لا يوجد قانون موضوع مكتوب في كثير من الجوانب لدينا، بدعوى أن التقنين محرم بناء على فتوى قديمة جدا مبنية على أدلة ضعيفة جدا ومتناقضة، وهي في جوهرها بنيت على عدم فهم معنى التقنين ومدى الحاجة إليه. وأحيانا يجد القاضي نفسه أمام آراء فقهية متناقضة، وقد تكون محور النزاع، وبأحد الرأيين قد يحكم لخصم وبالرأي الآخر يحكم للخصم الآخر "والأمثلة على هذا كثيرة جدا كتبت عنها في مقالات متخصصة لا أود الاستطراد هنا"! ومجرد وجود هذه الضبابية وعدم الوضوح، هو بلا شك أحد احتمالات الفساد التي تفرضها الحوكمة وتشترط إغلاقها عاجلا لأجل مراقبتها ومتابعتها. ولأجل اختصار هذه النقطة أود أن أقول؛ إن عدم وجود قانون واضح يلزم به القاضي للحكم في الموضوع يناقض تماما الحوكمة القضائية الحديثة ويتعارض معها كليا، بل ويهدم معه أغلب المبادئ الحوكمية الأخرى.
وأخيرا؛ من ضمن أهداف مبدأ الوضوح الحوكمي؛ أنه يحرص على وضوح الموضوع والإجراء للمستفيدين وأن لا يكون معقدا على من احتاج إلى الخدمة، وألا يكون مضطرا إلى الاستعانة بالآخرين فيما لو قرر القيام به بنفسه "باستثناء بعض الجوانب المتخصصة"، وهذا لأجل توفير حد أعلى من العدالة للناس وتسهيل الوصول إليها.
الحقيقة؛ أن وزارة العدل لها جهود في هذا المضمار ونأمل أن يضاعف الجهد فيه لأجل الدفع به إلى مستوى أعلى - بإذن الله -، وفقهم الله وسددهم.

إنشرها