الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد العالمي
من الآثار اللاحقة للأزمة المالية وتداعياتها الممتدة ما ظهر أخيرا من تجدد شعبية السياسات القومية المتطرفة. فقد أدى ضعف احتمالات زيادة دخل الأسر في الاقتصادات المتقدمة، مصحوبا بالاتجاه نحو مزيد من الاستقطاب في الوظائف والدخل، إلى إشعال رد فعل سياسي واسع النطاق يناهض الطرائق السياسية التقليدية. وإذا تهاون صناع السياسات في هذا الصدد، ولم يواجهوا تحدي رفع النمو طويل الأجل، يمكن أن تتكثف المخاطر السياسية، وقد تمحو بعض التقدم الذي تحقق حتى الآن في الإصلاحات الاقتصادية والاندماج الاقتصادي. وقد وحدت الفصول التحليلية الثلاثة في هذا العدد من آفاق الاقتصاد العالمي تركيزها على المحددات الأساسية للنمو الاقتصادي طويل الأجل.
ويعد النمو السكاني، وتوزيع الأعمار، وغيرهما من الاتجاهات الهيكلية في مجال التوظيف، عوامل ضرورية لفهم النمو والاستثمار والإنتاجية. ويركز الفصل الثاني على المشاركة في سوق العمل في الاقتصادات المتقدمة، حيث تمثل شيخوخة السكان، وكذلك تراجع معدلات المشاركة الكلية في سوق العمل في كثير من البلدان، عوامل معاكسة شديدة التأثير في النمو. ومما يثير القلق بوجه خاص انتشار التراجع في مشاركة الشباب والرجال في مقتبل العمر. ويوضح هذا الفصل كيف يمكن لمجموعة من السياسات – كالاستثمار في التعليم والسياسات الضريبية ــــ أن تخفف حدة هذه الآثار. لكن المشاركة ستستمر في الانخفاض حتى في ظل المناهج التي تعتمد أفضل الممارسات.
ويركز الفصل الثالث على تراجع نسبة التوظيف في قطاع الصناعة التحويلية على مستوى العالم، وفي الاقتصادات المتقدمة التي تبلغ فيها هذه النسبة مستويات حادة. وقد أثار هذا التحول الهيكلي المدفوع بالتقدم التكنولوجي وبالعولمة قلقا عاما إزاء احتمالية زيادة عدم المساواة في توزيع الدخل مع اختفاء "الوظائف الجيدة". ومن بواعث القلق أيضا أن البلدان الفقيرة حاليا قد تظل حبيسة مستويات دخل بعيدة عن حدود الدخل العالمية إذا لم يتسن لها المرور قط بمرحلة من التنمية تتسم بكثافة التوظيف في قطاع الصناعة التحويلية. غير أن الفصل يشير إلى إمكانية أن تتيح الخدمات مجالا واسعا لرفع الإنتاجية. وبالتالي، فإن أفضل استجابة من السياسات في هذا السياق ليست رفض قوى السوق ودعم الصناعة التحويلية ــــ فربما يكون ذلك بمنزلة مباراة صفرية النتيجة عالميا ــــ إنما استهداف رفع الإنتاجية في مختلف قطاعات الاقتصاد. ويتطلب هذا الجهد إصلاحات هيكلية، منها تخفيض الحواجز أمام التجارة في الخدمات، إلى جانب زيادة الاستثمارات في الموارد البشرية التي من شأنها تعزيز الارتباط بسوق العمل.
وأخيرا، يدرس الفصل الرابع العملية التي ينتشر من خلالها النشاط الابتكاري والدراية التكنولوجية عبر الحدود الوطنية. فعلى مدار التاريخ، كانت تدفقات المعرفة عبر الحدود من رواد التكنولوجيا إلى البلدان الأفقر بمنزلة دوافع قوية لتحقيق التقارب بين الدخول. والآن، يبشر ظهور الصين وكوريا كبلدان رائدة في بعض القطاعات بانتقال أصداء إيجابية إلى البلدان الأخرى، بما فيها البلدان عالية الدخل المستقرة منذ وقت طويل. ويشير هذا الفصل إلى أن التجارة والمنافسة الدوليين يشجعان على نشر المعرفة العالمية، ومن ثم يمثلان قناة مهمة تتيح لجميع البلدان الاستفادة من العولمة. ومن هذا المنظور، فإن السياسات التي تفرض قيودا على التجارة لدعم قطاعات معينة في الاقتصاد من منطلق التفضيل السياسي سينتهي بها الأمر إلى الإضرار بنمو الإنتاجية.
إن النمو العالمي في مرحلة انتعاش، لكن الظروف المواتية لن تستمر للأبد، والوقت مناسب للاستعداد لفترات أصعب. ولا يقتصر الاستعداد على إدارة السياسة النقدية وسياسة المالية العامة بمنظور استشرافي حذر، إنما يتطلب توجيه اهتمام كبير للاستقرار المالي أيضا. ومن الضروري أيضا تطبيق سياسات هيكلية وضريبية ترفع الناتج الممكن، بما في ذلك الاستثمار في الموارد البشرية وضمان أن يجني الجميع ثمار النمو. وبينما يستطيع كل بلد أن يفعل كثيرا بمفرده، يظل التعاون متعدد الأطراف ضروريا بشأن مجموعة من القضايا – تمتد من التجارة إلى تخفيض الاختلالات العالمية والأمن الإلكتروني وتغير المناخ.
استمر انتعاش النشاطين الاستثماري والتجاري العالميين في النصف الثاني من 2017. وبلغ النمو العالمي 3.8 في المائة في 2017، وهو المعدل الأسرع منذ عام 2011. ونظرا لاستمرار الأوضاع المالية الداعمة، فمن المتوقع أن يرتفع النمو العالمي مسجلا 3.9 في المائة في كل من 2018 و2019. وستحقق الاقتصادات المتقدمة نموا أسرع من مستوى النمو الممكن في العامين الحالي والمقبل، ومن المنتظر أن تتقلص الطاقة الفائضة في اقتصادات منطقة اليورو بدعم من السياسات النقدية التيسيرية، وأن تكون سياسة المالية العامة التوسعية في الولايات المتحدة دافعا للاقتصاد الأمريكي إلى أن يتجاوز مستوى التشغيل الكامل. ومن المتوقع أن تزداد قوة النمو الكلي في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، مع استمرار النمو القوي في البلدان الصاعدة الآسيوية والأوروبية، والتحسن المحدود في البلدان المصدرة للسلع الأولية بعد ثلاثة أعوام من الأداء الضعيف.