التضخم العقاري كعائق أمام حلول الإسكان
لطالما تمت الإشارة، والتأكيد في أكثر من مقام سابق، على أن أمن الطرق لعبور الأزمة التنموية ممثلة في أزمة الإسكان المحلية، هو المرور بها من خلال أسعار أدنى لمختلف الأصول العقارية، وأن أي تجاهل لهذه الحقيقة، لن ينتج عنه أي تقدم ملموس على طريق حل تلك الأزمة التنموية الكأداء، والأمر هنا يقاس على ما تم تحقيقه على أرض الواقع فعليا، وعدا ذلك فلا يتجاوز مجرد آمال ما زالت مسطرة وحبيسة الأوراق وشاشات عروض التسويق.
القاعدة تقول "ضع الحصان أمام العربة"، هكذا تمضي الأمور، وتتقدم معك الإنجازات بصورة ملموسة وفعلية، لا أن "تضع العربة أمام الحصان" التي معها ستمر عليك الأعوام، وأنت لا تزال تقف عند الخطوة الأولى دون أي تقدم يذكر! وما سيتغير هنا عليك؛ يكمن في أن وقوفك عند خطوتك الأولى، يعني أنك تأخرت كثيرا، وأن التحديات الجسيمة على كاهلك قد أصبحت أكبر مما كنت تظن، وقد تتفاقم تلك التحديات بصورة متسارعة جدا، لتصل إلى المستوى الذي لن تستطيع التغلب عليها بأي حال من الأحوال.
المزعج هنا؛ ليس سماع المرء لهذه الحقيقة، وامتعاضه من إدراك هذا الخلل المبين، إنما المزعج بدرجة أكبر، أن تتجاهلها اليوم، ثم يكتشفها ذات المرء في وقت متأخر جدا بعد فوات الأوان. ندرك جميعا أن محدودية التمويل العقاري لشراء المساكن، يمثل إحدى معضلات الأزمة الإسكانية، إلا أنها لا تقارن بحجم المعضلة الأكبر والأخطر، المتمثلة في التضخم الكبير لأسعار المساكن! وندرك أيضا أن ذلك التضخم الكبير الذي وصلت إليه أسعار المساكن، قد نتج في أغلبه إن لم يكن كله عن ترسب تشوهات واسعة جدا في السوق العقارية المحلية، ومع زوال تلك التشوهات التي بدأت الدولة ـــ أيدها الله ــــ في معالجتها منذ عامين تقريبا، تحديدا عبر إقرارها الرسوم على الأراضي البيضاء، فالنتيجة الحتمية هنا هي تلاشي كل ما نتج عن تلك التشوهات، بدءا من احتكار الأراضي والمضاربات المحمومة عليها، وما نتج عنه من تضخم هائل لأسعار الأراضي والأصول العقارية. حينئذ؛ سنكتشف أن ما كان البعض يعتقد أنه معضلة أو سبب في أزمة الإسكان، ممثلا في محدودية التمويل العقاري، أنه أصغر من ذلك بدرجة كبيرة جدا، وسيتحقق له التقدم المأمول، قياسا على الانخفاض اللازم والمشروط في تكلفة شراء المساكن، الذي لن يتطلب تمويلا ضخما على كاهل المشترين، وسيكون متوافقا مع مستويات دخلهم السنوي، ودون إلحاق أضرار جسيمة بحياتهم المعيشية، التي إن مسها أذى من نوع كان، فلا شك أن من سيدفع الثمن الفادح هو الاقتصاد الوطني بأكمله، وهو ما سبق الحديث عنه في أكثر من مقام ومقال، وأصبح معلوما بأكمله أمام الجميع.
كشف الصدام الأخير بين مجلس الشورى ووزارة الإسكان، حول ملف الرسوم على الأراضي البيضاء، والنتيجة الضعيفة جدا لتطبيقها حتى تاريخه، أؤكد أنه كشف عن أهم أسباب تأخر حلول أزمة الإسكان، ولماذا انخفض نشاط السوق العقارية المحلية إلى أدنى مستوياته منذ عام 2011، وعلى الرغم من الانخفاضات الملموسة في مختلف أسعار الأراضي والأصول العقارية خلال الفترة 2014 ـــ 2018 بنحو ثلث قيمتها، إلا أن الأزمة الإسكانية لا تزال في طور الصعود والاتساع، ما يعني أن الانخفاض الذي تحقق حتى تاريخه، يعود في الأصل إلى عوامل اقتصادية ومالية أخرى، إلا أنها لم تصل بعد بمستويات الأسعار المتضخمة لمختلف الأصول العقارية، إلى المستوى المقدور عليه والمقبول من لدن المشترين المستهدفين، سواء على مستوى دخلهم السنوي، أو على مستوى قدرتهم الائتمانية (التمويل العقاري).
كشفت بيانات التمويل العقاري عن نتائج محدودة جدا خلال العام الماضي، إذ لم يتجاوز نمو عدد المقترضين للقروض العقارية سقف 13 ألف مقترض (8.4 في المائة)، بزيادة أعدادهم من نحو 155 ألف مقترض خلال 2016، إلى نحو 168 ألف مقترض بنهاية 2017 (92 ألف منهم مقترضون بعقود الإجارة ذات التكلفة المتغيرة)، ولم تنمُ القروض العقارية الممنوحة للأفراد من المصارف وشركات التمويل العقاري بأكثر 9.5 في المائة، من 122 مليار ريال بنهاية 2016 إلى 133.6 مليار ريال بنهاية 2017. وستظل تلك النسب من الأداء محدودة جدا طالما لم يمس السبب أو الخلل الأهم (التضخم)، إلا أن المزعج هنا هو اتساع الأزمة مستقبلا مقارنة بما هي عليه في الوقت الراهن، وهو ما يستدعي من وزارة الإسكان والأجهزة الحكومية كافة ذات العلاقة بهذه الأزمة، أن تعكف على إعادة النظر في ملفاتها وسياساتها الهادفة لمعالجة أزمة الإسكان، وهو ما سيكون حوله الحديث في المقال القادم بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.