الاحتيال المالي .. الوباء المدمر
الاحتيال المالي العالمي ليس جديدا، ولكنه استمر في النمو وتجددت أدواته على مدى عقود. وفي مطلع القرن الحالي، شهد العالم عمليات احتيال، بعضها يفوق التصور من حيث الكيفية والوسائل. ويمكن القول باطمئنان كامل، إن الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008، كانت نتاج أعمال احتيالية هائلة، شارك فيها الجميع، بما في ذلك بعض الحكومات التي غضت النظر عما يجري في القطاع المالي، بل شجعت على إطلاق مجموعة من المشتقات المالية، جلبت النظام المالي العالمي كله إلى الهاوية. كان هدف الحكومات سياسيا يختص بتدعيم وضعها الشعبي على الساحة المحلية، لكن الجانب الآخر من المحتالين كان يهدف إلى الاحتيال فحسب، من أجل جني أموال وصلت في بعض الحالات إلى مستويات خرافية. وليس أفضل من محتال كبرنارد مادوف، الذي احتال بأكثر من 60 مليار دولار على مدى 20 سنة، طارت الأموال كلها تقريبا.
ومن هنا يمكن فهم حجم خسارة الاقتصاد العالمي بنحو 6 في المائة جراء عمليات الاحتيال التي تجري هنا وهناك. ولكن من الصعب استيعاب أضرارها على هذا الاقتصاد. وأعمال الاحتيال تظهر بصورة جلية في البلدان التي تعاني أصلا أزمات اقتصادية واسعة، فتزيدها خرابا ومصائب. والاحتيال يشمل القطاعين الحكومي أو الخاص. وقد قامت مجموعة من الحكومات بالفعل بحملات قوية ضد الاحتيال حققت من خلالها نجاحات كبيرة. ولعل الحملة التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على الفساد والاحتيال، هي الأكثر نجاحا في الوقت الراهن على المستوى العالمي، لأنها بلغت حدودا لم تستطع بلدان أخرى بلوغها، الأمر الذي دفع الكيانات الاقتصادية العالمية إضافة إلى الدول الكبرى لتأكيد نجاعة هذه الحملة، وضرورتها.
الاحتيال لا يؤدي إلى سرقة المال العام والخاص فقط، بل يجعل البيئة التي ينتشر فيها طاردة للاستثمارات والنمو، بمعنى آخر تكون هذه البيئة مخيفة للمستثمرين وفي وضع اقتصادي صحي سيئ للغاية. الآثار السلبية للاحتيال لا حصر لها، من بينها تدني مستوى الخدمات العامة، وضعف التمويل اللازم للمشاريع الحيوية، وتعريض المؤسسات المالية بكل أنواعها للمخاطر. بعضها شهد انهيارا حقيقيا جراء الاحتيال، اضطر عددا من الحكومات للتدخل والإبقاء على المؤسسات قائمة بأموال الناس. وبعضها الآخر تم التضحية به لأن عمليات إنقاذه أكثر تكلفة من تركه ينهار تماما. إنه وباء سرطاني عدواني، وإذا لم تتخذ الإجراءات السريعة ضده، فلا أحد يمكنه الادعاء أنه بمنأى عن آثاره.
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، أسرعت الحكومات إلى اتخاذ خطوات قوية ضد الاحتيال المالي في كثير من البلدان، بل عقدت قمم كان الاحتيال على رأس جدول أعمالها. إلا أن تطور آليات المحتالين لا يتوقف، بما في ذلك استغلال الثغرات القانونية هنا وهناك. وإذا كانت نسبة 6 في المائة هي خسائر الاحتيال على الاقتصاد العالمي، فإنها ربما تكون أكبر من ذلك على أرض الواقع، لماذا؟ لأن النسبة المشار إليها ليست سوى قيمة تقديرية. المهم أن تمضي الحكومات قدما في الحرب على الاحتيال والفساد، وأن تطور هي الأخرى أسلحة الحرب هذه. فالمحتالون سيظلون على الساحة، طالما أن هناك من يساعدهم على القيام بأعمالهم الدنيئة.