Author

كفاءة المدن .. والهجرة الداخلية

|

أحد الأهداف الاستراتيجية التي وضعتها وزارة الشؤون البلدية والقروية في برنامج التحول الوطني، هو تحقيق تنمية حضرية مستدامة ومتوازنة، وتحسين مستوى جودة الحياة في مدن ومناطق المملكة، وقد حددت الوزارة مؤشرات أداء لتحقيق هذا الهدف، وأحد مؤشرات الأداء هو قياس نسبة التحسن في معدل النمو السكاني في المدن المتوسطة والصغرى مقابل معدل النمو السكاني في المدن الكبرى لتصل النسبة إلى 25 في المائة، وهذا يعني مزيدا من العناية بالمدن المتوسطة والصغيرة والقرى المجاورة لها، ومحاولة الحد من هجرة المواطنين إلى المدن الكبرى، بل وتحفيز الهجرة العكسية للمدن المتوسطة والصغيرة، والحرص على إيجاد فرص عمل وأسلوب معيشة مناسب يفي بالاحتياجات الحالية للأسر السعودية فيها.
الهجرة الداخلية للمدن الكبرى والتكتل السكاني والتجاري في مناطق ومدن محددة أمر عكفت سياسات الحكومات الاقتصادية والعمرانية على الاهتمام به ومحاولة صناعة نوع من التوازن بين ما يسمى الاقتصاد الإقليمي/ الصناعي والحضري/ العمراني Localization and Urbanization Economies، فالوضع المثالي حسب وجهة نظر البعض هو تنمية الاقتصاد الإقليمي، وذلك أن تكون لكل منطقة من مناطق الدولة الواحدة صناعة بارزة تتميز بها، حيث تستطيع من خلالها جذب المتخصصين فيها ورفع مستوى الإنتاجية، وبالتالي ارتفاع الأجور وتحسين جودة المعيشة، ثم الانتقال إلى جذب سلسلة التوريد لهذه الصناعة أو الصناعات من منشآت صغيرة ومتوسطة ودعمها لتكون رافدا مهما للصناعة الأساسية، وعندما نتحدث عن صناعة فنحن لا نقصد التصنيع فقط، وإنما الصناعة بمفهومها الشامل الذي يشمل كل القطاعات، ولعل أبرز الأمثلة المعروفة عالميا هو وادي السيليكون في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، الذي يضرب به المثل في نجاح هذا الأسلوب الذي لم يقتصر على أن يحتل الريادة في صناعة التقنية في أمريكا فقط، بل كذلك على مستوى العالم، في المقابل ظهرت وجهات نظر ترى أن الأمر لا يمكن أن يحصل في كل منطقة وأن الموازنة بين الاقتصادين الإقليمي والحضري هو الحل الأنسب، فمحاولة تنمية صناعة معينة تتميز بها المنطقة هو حل جزئي ولا بد من تحفيز أنواع من الصناعات والأعمال التجارية الأخرى التي لا يمكن أن تحفز إلا بوجود تكتل بشري وعمراني يستوعبها، لكن كلا التوجهين يحتاجان إلى خطط استراتيجية ودراسات ومتابعة دورية حتى لا يتحول التكتل العمراني والبشري أو هيمنة صناعة معينة في مدن معينة إلى عبء اقتصادي واجتماعي بدلا من ميزة، لأن لكل مدينة استيعابا معينا من الخدمات والبنية التحتية والتوسع الأفقي والعمودي، وهناك نطاق تعتبر فيه المدينة وصلت إلى الحد المثالي من التعداد السكاني، وبعد هذا النطاق سيتحول كل شخص ينتقل إلى المدينة إلى عبء عليها، وهذا ما يجب أن توضحه الجهات الحكومية المعنية بالسياسات الاقتصادية والعمرانية لكل منطقة، لأن الفرد لديه قناعة أن الوجود في مدينة كبيرة سيحقق له وضعا ماليا ووظيفيا أفضل، لكنه لا يفكر بأن هجرته وغيره قد تخل بميزان الخدمات والبنية التحتية المتوافرة لعدد محدود من السكان، وبالتالي يعاني السكان في هذه المدن الانقطاع المتكرر لخدمات المياه والكهرباء وضعف تصريف السيول ويعاني الجميع الازدحام المروري وأزمة ارتفاع سعر السكن سواء للشراء أو الإيجار وضعف الدخل مقابل ارتفاع تكلفة المعيشة، لذلك الحل يكمن في وجود خطط استراتيجية ومتابعة دورية من الجهات الحكومية المعنية لتحسين مستوى الخدمات حتى لا تصل إلى مراحل سيئة في المدن الكبيرة حاليا، وكذلك توجيه الإنفاق الحكومي وتحفيز الاستثمارات لإيجاد مناطق ومدن جديدة تتوافر فيها فرص وظيفية وتنمية تجعلها جاذبة لأهلها للبقاء فيها، وكذلك لساكني القرى المجاورة لاستغلال نهضتها.
الخلاصة، من المهم معرفة نقاط التميز والفرص الموجودة في كل منطقة من مناطق المملكة، فاختلاف طبيعة المناطق وسعة رقعة البلاد يعنيان ثروات كامنة وفرصا متعددة يمكن استغلالها لتحفيز قطاعات معينة لكل منطقة يمكن من خلالها إيجاد بيئة جاذبة للمستثمرين والمبدعين، وبالتالي تنشيط جميع مناطق المملكة بما تملكه من مقومات بشكل يحقق الاستدامة الاقتصادية لها على المدى البعيد، وبهذا نستطيع إيجاد بيئة محفزة للهجرة العكسية من المدن الكبرى إلى المدن المتوسطة والصغيرة، لكن يجب الانتباه إلى أن رسم هذه الاستراتيجيات وإنجاز البنية التحتية لها ومحاولة إقناع المستثمر والمجتمع بها يستغرق بعض الوقت، لذلك إلى أن يتم إنجاز هذه الرؤية الطموحة لا بد من رفع كفاءة الخدمات في المدن الكبرى وسرعة تفعيل حلول السكن واستحداث الوظائف وسعودتها، وإنجاز مشاريع النقل العام وشبكات الطاقة والمياه والصرف الصحي، والعمل على إدارة هذه الخدمات بفاعلية وبشكل استباقي وليس دفاعيا، حتى لا نواجه عقبات قدلا يمكن تداركها.

إنشرها