Author

أبو دهمان.. وعين السُّخط

|

حين قرأت رواية "الحزام" للصديق المبدع أحمد أبو دهمان قبل نحو 14 عاما غمرتني نشوة لعذوبتها، فقد كانت مكتظة بالشعر والغناء وفيض من السحر أحسبه كتبها كالطلقة على حد تعبير الراحل الكبير يحيى حقي في وصفه للحالة التي كتب فيها روايته "قنديل أم هاشم" فقد لهثت مأخوذا مع "الحزام" وأدارت رأسي فكتبت عنها في حينه!

وقبل أيام ( 2017/2/14 ) قرأت للصديق أحمد حوارا ماتعا أجراه معه الأستاذ علي مكي في صفحته (جدل) في جريدة "عكاظ" أعاد السؤال فيه عن رأي كان أحمد قد قاله قبل عقد من الزمان وهو : "أشعر بالقلق على اللغة الفرنسية فهي محاصرة حتى في الأماكن التي كانت تعد معاقلها القديمة، وهي رغم كل كنوزها الثقافية وتاريخها العظيم بدأت تفقد قوتها بالتدريج لمصلحة لغة "بشعة سوقية" هي اللغة الإنجليزية.. كيف للغة بشعة وسوقية أن تكون لغة العصر والعالم.. لغة المال والأعمال؟

وفي إجابته قال قولا سديدا عن حال اللغة العربية، لكنه في معرض قلقه على الفرنسية بدا راسخا في موقفه وتوصيفه السابق للغة الإنجليزية حيث قال: "أما الفرنسية فإن الزمن الذي كان الفرنسي يعتز فيه بلغته قد أخذ في الانحسار لأن الجيل الجديد لم يجد منتجا موسيقيا وعلميا وحياتيا يكفيه في لغته الأم فذهب إلى لغات أخرى وعلى رأسها الإنجليزية السوقية التي لا يتجاوز قاموسها عشرات الكلمات".

إنني أولا أتفهم وأقدر للصديق أحمد هذه الحسرة على ما آل إليه حال اللغة الفرنسية لسببين أحدهما خاص به فهو تتلمذ بها وعليها ونهل من معينها الأدبي والفكري والفلسفي والفني وتلمظ مخارج موسيقى حروفها وحلق في أجواز مجازها. أما السبب الثاني، وهو متصل بالأول، فلأن اللغة الفرنسية هي لغة الأنوار والموسوعيين والحداثة في الفلسفة والفكر والعلم والأدب والفن، والتي تدافعت مشحونة بالوعي والمجازفات الخلاقة، ما إن تحسبها تصدع بالقول الفصل حتى تفاجئك من جديد بالشاهق المبهر.

لكنني.. على الرغم من هذين السببين لا أتفق معه في موقفه من اللغة الإنجليزية والحكم القاطع عليها بالسوقية والبشاعة، فهذا حتما موقف غير موضوعي لا يتسق مع الحقيقة المشمسة للوضع والمكانة التي تحتلها اللغة الإنجليزية اليوم وتصدرها الكاسح للغات العالم، وطبعا لا يرجع هذا لفرادة وامتياز استثناءين خارقين خاصين باللغة الإنجليزية نفسها دون سائر لغات العالم، وإنما لأنه ما من معايير يمكن أن نقرر على أساسها نخبوية وجمال لغة أو سوقيتها وبشاعتها، فاللغة ـــ أي لغة ـــ ما هي إلا كائن حي هواؤها وماؤها وطعامها منسوب الحيوية في الأمة أو الشعب أو الجماعة التي تتحدثها فبقدر حيوية أهلها تكون اللغة كذلك، أي بقدر التفوق الحضاري.. بقدر ما تصبح اللغة أكثر حياة وأوسع وأسرع انتشارا وبالضرورة أشد هيمنة.

وقد كانت الإنجليزية منذ الفترة الاستعمارية في سباق منافسة للهيمنة اللغوية مع لغات أوروبية أخرى أهمها الفرنسية فحينها كان للفرنسية دويها في البلدان التي استعمرتها. غير أنه بانحسار النفوذ الاستعماري، أخذت كل من اللغتين الإنجليزية والفرنسية وضع لا غالب ولا مغلوب لفترة وجيزة حتى برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية.

ومعلوم أن أوروبا ومنها فرنسا كانت ميدان مشروع مارشال الأمريكي الشهير لإعمار أوروبا.. وطبعا لم يكن مشروع مارشال إعمارا صامتا وإنما كان "يلغو" بالإنجليزية"، وبقية القصة معروفة، فقد هيمنت اللغة الإنجليزية بهيمنة أمريكا التي صارت عملاقا كونيا، ليس بالقوة العسكرية والقوة الاقتصادية وحسب وإنما لأن هاتين القوتين نجما بالتأكيد عن قوة فكرية وعلمية بآلاف الجامعات ومراكز البحوث والإنتاج الثقافي والفني وجوائز نوبل والأوسكار، فصارت لغة كل مجال وليس المال والأعمال فقط!

تاريخيا.. يعلم الصديق أحمد أن اللغة اللاتينية كانت في ظل الإمبراطورية الرومانية القديمة هي اللغة السائدة، كما كانت اللغة العربية هي السائدة أيضا في أوج ازدهار الحضارة العربية. بل إن كلمات أحمد في المقابلة ذاتها تقول الشيء نفسه: "الشعوب المستهلكة تفقد لغتها لمصلحة لغات الشعوب المنتجة"، فضلا عن إشارته إلى "الجيل الفرنسي الجديد الذي لم يجد منتجا في لغته الأم فذهب إلى لغات أخرى وعلى رأسها الإنجليزية".

فإذا كان هذا هو الحال.. فهل يعقل أن ينجرف "الجيل" بل الأجيال والعصر إلى لغة سوقية وبشعة لا يتعدى قاموسها عشرات الكلمات، فيما الحقيقة تقول إن المعاجم والقواميس والموسوعات لا تكاد تلاحق طوفان الكلمات والمصطلحات التي تهطل كل يوم فضلا عن إنتاج أهلها وميل غيرهم للكتابة بها أو حفاوتهم بترجمة أعمالهم إليها أو التوق إلى ذلك!

أعيذ الصديق أحمد من أن تكون قراءته لمكانة الإنجليزية قراءة آيديولوجية وأعيذ نفسي من أن أكون مترافعا عنها، فهي بغنى عن مرافعتي بحكم الواقع الفاقع لها. وإنني لعلى يقين من أن (أبو نبيلة) لو كان قد تتلمذ باللغة الإنجليزية وعليها لما وصفها بالبشعة والسوقية وبقاموس لا يتجاوز عشرات الكلمات ولصار موقفه تجاهها كموقف من تعلموا في بريطانيا وأمريكا ولربما أشاد "بكنوزها وتاريخها العظيم" اللذين وصف بهما الفرنسية.

فقد كانت الإنجليزية هي الأخرى لغة ضاجة بالمجد في مهدها البريطاني كما هي اليوم متأججة في ظل الهيمنة الأمريكية.. وتلك هي الحقيقة مهما كنا تجرعنا ونتجرع غصصا من كؤوس حنظل العم سام.

أكبر ظني أن الصديق أحمد في موقفه المزدري للغة الإنجليزية قد وقع تحت طائلة عجز البيت الشعري المشهور للإمام الشافعي: "وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا" وإلا.. فإن قاموس السوقية والبشاعة في كل لغة وافر وافر أينما يممنا!

إنشرها