المشراق

الماضي والتاريخ .. بين الثبات والتبدل

الماضي والتاريخ .. بين الثبات والتبدل

يعتقد بعض المسؤولين عن التعليم العالي، أن الكتاب والباحثين قد درسوا موضوعات كثيرة في التاريخ تغطي كثيرا من جوانبه؛ ومن ثم، فلا حاجة إلى مزيد من البحث في تلك الموضوعات. وهذه نظرة موجودة، نقرأ عنها في الصحف، ونسمعها في محاورات ومجالس، من مسؤولي التعليم بشقيه العام والعالي. فهل فعلا يمثل رأي هؤلاء رأي خبير في التاريخ يعي ما يقول؟ أم هو رأي فردي، لا يرى صاحبه كبير فائدة في دراسة التاريخ، وأن كتابا واحدا عن تاريخ الجزيرة القديم، على سبيل المثال، يعد عنده كافيا وافيا.
يخلط هؤلاء كغيرهم من البعيدين عن العلوم الاجتماعية، والتاريخ خصوصا، بين مفهومي الماضي والتاريخ، ويجعلونهما مترادفين يعنيان المعنى نفسه. ولكن الماضي يختلف عن التاريخ، فالماضي ثابت لا يتغير، بينما التاريخ متغير بطبيعته ومفهوم من يدونه. فما الفرق بين الماضي والتاريخ؟ الماضي هو الأحداث التي حصلت وانقضت، والآثار الباقية الدالة عليها. أما التاريخ فهو الكتابة عن تلك الأحداث وربطها ببعضها بعضا، واستجلاب المعاني منها. فعلى سبيل المثال، فإن حصنا أو قلعة أو رسالة أو قصيدة، كل ذلك يعد ماضيا، وليس تاريخا. وهو ثابت لا يتغير، لأنه بحالته الأولى، إن سلم بطبيعة الحال من عوامل التخريب الطبيعية أو المقصودة.
أما دراسة الماضي، وتحليله وربطه بغيره من الآثار، فهذا هو التاريخ. فالتاريخ متغير بخلاف الماضي الذي يتصف بالثبات، لأنه خاضع للظروف الثقافية والسياسية التي كتب في ظلها، وهو كذلك يمثل ظروف كاتبه الزمانية والمعرفية والسياسية، وغيرها مما يمكن أن يؤثر على فهمه وتفسيره لذلك الماضي. فهو إذن متغير دائما، حسب فهم وظروف كاتبه وعصره. لهذا لا تصح في عرف المؤرخين مقولة، إن التاريخ يعيد نفسه، فمرددها لا يقصد أن الماضي يعيد نفسه، بل يقصد تطابق قراءته وتفسيره هو لحدثين متشابهين، والتفسير يختلف من شخص لآخر حسب الظروف التي ذكرتها سابقا. وهي على أي حال، عبارة لا يرددها من خبر علم التاريخ وعاناه.
ومن هنا يتبين خطأ المسؤول الجامعي والمثقف، اللذين ظنا أن قراءة واحدة تكفي لكل موضوع تاريخي. فهو يغيب عن ذهنه تطور المعرفة الإنسانية، والآثار الجديدة المكتشفة (الثابتة، والمكتوبة، والمرئية، والمسموعة) على السواء. بل وكأنه بدعوته هذه إلى جمود الدراسات التاريخية، يدعو إلى جمود المعرفة والتطور السياسي والاجتماعي لمجتمعه. وأكاد أجزم أن أصحاب هذه الدعوات لم يدر بخلدهم هذه التداعيات، لكنهم حبسوا أنفسهم في تخصصاتهم الضيقة، فجهلوا ما يقع خارجها، والإنسان عدو ما يجهل.

* قسم التاريخ - جامعة الملك سعود

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق