انخفاض السيولة .. وتحجيم «الجشع»

لست ضد التجار والمستثمرين بشكل عام أيا كان مستواهم، وكلي قناعة بأنهم يسهمون في النمو الاقتصادي، وإجمالي الناتج المحلي، وتوفير السلع والخدمات التي يحتاج إليها المستهلك، وهم مواطنون بادروا وخاطروا بالاستثمار ولم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالتخطيط والتعب والمثابرة والإصرار والصبر لتجاوز العثرات والعوائق، وقصص المبادرين من أبناء المملكة لا تعد ولا تحصى وتمثل نبراسا للمبادرين الشباب ليعرفوا ما ينتظرهم من فرص وعوائق وما عليهم فعله للنجاح.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال ألا ننتقدهم خصوصا فيما يتعلق بالطمع الذي يصل للجشع في أحوال كثيرة خصوصا في دورات الانتعاش الاقتصادي، حيث يرتفع الطلب لتوافر السيولة بأيدي الناس، وكلنا لمسنا ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل كبير في السنوات العشر الماضية في القطاعات كافة، ومعظمها ارتفاعات غير مبررة ولا قدرة للمستهلكين من الطبقة المتوسطة وما دونها عليها، رغم أن الدولة تدعم المستثمرين وتقدم لهم كثيرا من التسهيلات وتحميهم من منافسة المستثمر الأجنبي، ولم تفرض عليهم ضرائب أو رسوما كبيرة كما هو حال المستثمرين في الدول الرأسمالية.
الجشع عواقبه وخيمة على المستثمر والمستهلك والوطن، والمستثمر أو التاجر الجشع يسعى إلى أرباح كبيرة في زمن قصير على حساب الوطن والمواطن دون رادع من ضمير أو من دين ظانا أن ذلك من مهارات الاستثمار، ومن أمثلة الجشع التي تحركت الدولة لمواجهته مشكلة استيراد سلع رديئة من الصين بأسعار زهيدة وبيعها بأرباح مضاعفة لتحقيق أرباح خيالية رغم علم المستورد بمخاطرها الصحية والبيئية، حيث يتحول كثير منها إلى نفايات في فترة قصيرة فيخسر المواطن ما دفعه دون فائدة وعلى الدولة تحمل تكاليف التخلص منها، وحيث يسبب بعضها أمراضا صحية وحرائق تودي بحياة الناس وتكلف الدول كثيرا لإطفائها ومعالجة المصابين الذين يعانون إصابات مزمنة. الأمثلة كثيرة ولا تحصى خصوصا في مجال المواد الكهربائية الرديئة والمقلدة التي أحرقت المنازل والسيارات، وكذلك في مجال قطع غيار السيارات.
أحد الأصدقاء يقول قمت بتركيب إضاءة «الليد» بدل العادية لكونها توفر استهلاك الكهرباء ودفعت مبالغ كبيرة لشراء الأنوار كما دفعت مبلغا كبيرا لتركيبها وفي خلال مدة لا تتجاوز الشهر احترقت كلها تباعا ورغم أنها مكفولة لمدة سنة وقمت بإرجاعها للمحل الذي اشتريتها منه إلا أنها كلفتني كثيرا في التركيب والإزالة ثم تركيب الجديد مع العلم أن الاستبدال يكون من الجودة ذاتها ما جعلني أدفع المزيد للحصول على إنارة ذات جودة أعلى، وعند سؤالي للبائع قال التاجر السعودي يأتي بهذه البضاعة الرديئة التي تحترق بسرعة، أليس هذا جشعا؟ أليس هذا استهتارا بحقوق المواطن وتحميله تكاليف مضاعفة في فترة قصيرة بسبب استيراد مواد رديئة والادعاء بأنها جيدة وتتحمل لتحقيق أرباح مضاعفة في فترة قصيرة؟ ألا يجب أن يحاسب التاجر الذي استورد هذه الكميات الرديئة التي كلفت المواطن والوطن الكثير وحولت عملة صعبة للخارج دون فائدة ترجى؟
آخر يقول ذهبت لإصلاح سيارتي لعطل بسيط وإذا بالميكانيكي يطلب مبلغا كبيرا للإصلاح يتجاوز أسعار قطع الغيار المضمونة من البائع، وعندما سألته عن سبب ذلك الغلاء قال مالك العقارات يرفع الإيجارات بشكل دوري بشكل جشع دون رادع من نظام أو ضمير، كما أن الكفيل يطلب مبلغا كبيرا سنويا لكفالته وكل ذلك يجب أن يدفعه الزبون، وعندها رجعت لمحل قطع الغيار لأتأكد من جودة القطع لأن تكلفة تركيبها مرة أخرى مرتفعة جدا فالضمان لا يعني شيئا، ذلك أن استبدال القطع هو الجزء الأقل تكلفة رغم أنها، كما يشير كثيرون، مرتفعة جدا بالنسبة لتكلفة استيرادها كما ثبت من خلال شرائها من خلال مواقع التسوق الإلكتروني.
وفيما يتعلق بجشع ملاك العقارات الذي يشتكي منه الجميع ويعتبرون أحد أهم أسباب التضخم لكون أي نشاط تجاري أو صناعي أو زراعي يتطلب عقارا فيبدو لي أنه حان الوقت لمعالجة مشكلة رفع الإيجارات من قبل الملاك دون نظام يحدد نسبة الرفع وبما يتناسب مع التضخم، وأذكر أن أحد الأصدقاء تضاعف عليه إيجار السكن في شقة قديمة بحي قديم بنسبة 100 في المائة خلال سنتين، أما أصحاب المحال والمطاعم والورش وغيرها فيشتكون من ذلك بشكل مرير ويحولون هذه الارتفاعات لظهر المستهلك المسكين الذي ضاقت معيشته بسبب ارتفاع إيجار سكنه وارتفاع تكاليف السلع والخدمات لتغطية ارتفاع إيجارات الأنشطة التجارية.
أما ما يتعلق بالسلع الرديئة التي تحقق أرباحا كبيرة للمستوردين في مدد قصيرة فيجب على الجمارك بالتعاون مع هيئة المواصفات والمقاييس إيقاف هذه المهزلة ذات الآثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية السلبية الكبيرة سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الوطن بشكل عام، ولإيقاف مهزلة استيراد السلع الرديئة وآثارها السلبية نتطلع إلى أن تتشدد وزارة التجارة في تطبيق الأنظمة الرقابية والعقابية للحد من سلوكيات الجشعين، ويمكن لوزارة التجارة أن توجد آلية للتبليغ من قبل المستهلكين فيما يتعلق بهذه النوعية من المواد التي تتعطل بشكل سريع أو يترتب على استهلاكها أضرار أيا كان نوعها.
بكل تأكيد فإن حالة الركود الاقتصادي ونقص السيولة بأيدي الناس التي نعيشها حاليا بسبب انخفاض إيرادات النفط أثرت في الجشعين، حيث أحجم الناس عن شراء منتجاتهم فتكدست في المخازن ما جعلهم يخفضون نسبة الجشع ليعودوا للأرباح المعقولة أو الخروج برأس المال، وبالتالي نقول رب ضارة نافعة والخيرة فيما اختاره الله ولو كنا في انتعاش دائم لوصلت الأسعار لارتفاعات خيالية تجعل العيش الكريم صعب المنال.
ختاما أرجو أن يكون نقص السيولة وإحجام المستهلكين سببا لمعالجة مشكلة الجشع في نفوس بعض رجال الأعمال كما أرجو أن نغتنم الفرصة لتطوير الأنظمة والإجراءات لحماية المستهلك من الجشع وما يترتب عليه من خسائر كبيرة.
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي