العولمة بين الصين وأمريكا
تتنامى في عدد من الدول الصناعية الكبرى، ومنها الولايات المتحدة، نزعة حمائية تحاول توجيه بوصلة السياسة الاقتصادية إلى الداخل على حساب العولمة. السبب في ذلك يعود إلى تدهور أحوال الطبقة المتوسطة وفقدانها المستمر للوظائف. فعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يمر اليوم بأفضل أحواله منذ سنوات، بمعدل نمو قوي وتراجع معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها، إلا أن تلك الإحصائيات لا تعني كثيرا للمواطن البسيط. فنوعية الوظائف وجودتها وكذلك الأمان الوظيفي عوامل لا تزال مفقودة رغم تحسن الاقتصاد. الأمر الذي دفع الناخب لتأييد الرئيس المنتخب ترمب الذي قدم سياسة حمائية للاقتصاد الأمريكي. هذه السياسة قد تنجح على المدى القصير بدعم ناخبيه المطالبين بالوظائف، ولكنها أيضا ستمثل تراجعا في نهج الولايات المتحدة الداعم للعولمة منذ بداية الألفية.
الأجندة السياسية التي طرحها الرئيس الأمريكي المنتخب بالانسحاب من اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقية باريس للمناخ إضافة إلى فرض الضرائب على الواردات ستعمل على إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية العالمية بشكل قد يتيح الفرصة للصين لزيادة نفوذها في كل مناطق النفوذ الاقتصادي الأمريكي الحالية مثل أمريكا اللاتينية. إضافة إلى أن الصين بدأت منذ زمن العمل على تنمية شراكتها واستثماراتها في القارة الإفريقية، التي ستكون محطة النهاية لمبادرة طريق الحرير الجديد -أوبور.
القوة الناعمة التي تعتمدها الصين في ترويج أجندتها العالمية تعتمد بشكل أساس على الاتصال والتواصل عبر بنية تحتية مشتركة. فهي تبني موانئ عميقة في مناطق استراتيجية في القارة الإفريقية لتطوير الصناعة حولها. إضافة إلى شبكة من الطرق وسكك الحديد التي تربطها بروسيا وأوروبا الوسطى والشرقية. فهذه المبادرات ستصاحبها عمليات تطوير للأعمال وتوسيع للقاعدة الاقتصادية أينما مرت. كما أن توقيت التراجع في الدور الأمريكي جاء ليوافق الوضع الاقتصادي الصيني. فبعد سنوات من التركيز على زيادة سعة الاقتصاد المحلي، وبداية هذه السياسة في إعطاء نتائج مشجعة، فإن ذلك سيعطيها الزخم اللازم للعب دور أكبر على ساحة الاقتصاد الدولي. يترافق هذا التحول في السياستين الاقتصاديتين لأكبر اقتصادين في العالم مع تغيير مراكزهما.
ما زالت الولايات المتحدة هي الاقتصاد الأكبر على مستوى العالم، وستبقى كذلك من ناحية إجمالي الناتج المحلي. ولكن عند تعديل إجمالي الناتج المحلي للقوة الشرائية للاقتصاد، فمن المتوقع أن تتجاوز الصين الولايات المتحدة لتصبح الدولة الأكبر تأثيرا في الاقتصاد العالمي بنهاية العام الحالي. وكذلك يجب أخذ مبادرات الصين واستثماراتها الخارجية في الحسبان، فهي تعمل على توظيف ما يزيد على نصف إجمالي الناتج المحلي وأكثر من ثلثي سكان العالم في مبادرات تتزعمها. الولايات المتحدة ليست إنجلترا وسيكون لسياستها الانعزالية تبعات كبيرة. ولذلك فإن على أمريكا الموازنة بين الفوائد المرجو تحقيقها من انكفائها على ذاتها وتكاليف فقدانها دورها الحيوي والرئيس في عالم الاقتصاد.