الحقيقة مقابل العفو .. «عدالة ناقصة» تؤسس لانتماء وطني جديد
يعيد ملف المصالحة الذي فتحت صفحاته هيئة الحقيقة والكرامة في تونس هذه الأيام إلى الأذهان سؤال المصالحة الوطنية في عديد من الدول العربية التي تعيش على وقع فائض من الهويات أو بتعبير آخر انتماء مواطناتي ناقص (العراق، سورية، لبنان، اليمن...).
وخاصة أن التاريخ يخبرنا أن المصالحة الوطنية ركيزة من ركائز المرحلة الانتقالية؛ بعد أي تغيير يحدث في نظام الحكم في البلد، فقد شهدت الفترة من 1974 إلى 2007، وفق أحدث التقارير الصادرة عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية، إنشاء نحو 32 لجنة تحقيق في 28 بلدا، ما يعني أن التاريخ الإنساني غني بتجارب لدول مرت بمراحل من الانقسام المخضب بالدماء.
اصطلاحا تعد المصالحة الوطنية عنصر من العناصر المحورية في العدالة الانتقالية، التي تعد هي الأخرى حلقة صغرى في مسلسل أكبر هو الانتقال الديمقراطي.
#2#
يحدد تقرير الأمم المتحدة حول "سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع" مفهوم العدالة الانتقالية بالقول: "يشمل مفهوم العدالة الانتقالية كامل نطاق العلميات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي تبذلها المجتمعات لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقا) ومحاكمات الأفراد، والتعويض، وتقصي الحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات".
العدالة الانتقالية في تعريفها البسيط إذن عدالة غير قضائية، ولا تستند إلى قانون أو تشريع. باختصار هي عدالة ناقصة في ظروف استثنائية. تقوم فلسفتها على أن التعامل مع موروث الماضي لا يحقق العدالة فقط، وإنما يضمن في المستقبل الشفافية والالتزام بمبادئ الديمقراطية بعد المصالحة من قبل المؤسسات العامة. على هذا الأساس لا تكون فلسفتها "انتقامية"، ولها دور فاعل في بناء مؤسسات حكم على أسس جديدة وفي إطار لا يسمح بالإفلات من العقاب.
تجمع الأدبيات النظرية للعدالة الانتقالية على ضرورة اعتماد المقاربة الشمولية، وذلك باستيعاب جملة من العناصر الأساسية تتمثل أساسا في: المحاسبة، الكشف عن الحقيقة، المصالحة، إصلاح المؤسسات، جبر الضرر.
على هذا الأساس تصبح المصالحة مركزية في مسلسل العدالة الانتقالية، وإحدى المداخل الرئيسة لتحقيق هذه العدالة لغاياتها. وتعني المصالحة الوطنية في أبسط معانيها، عملية للتوافق الوطني على أساسه تنشأ علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية قائمة على قيم التسامح، وإزالة آثار صراعات الماضي ومخلفاته، من خلال آليات محددة، ووفق مجموعة من الإجراءات التي يتقيد بها الجميع ويخضعون لها دون استثناء.
وقد وضعت المنظمات الدولية التي تهتم بحقوق الإنسان والسلم المجتمعي المعايير والآليات الواجب اتباعها لبدء عمليات المصالحة الوطنية، وتولى الباحثان الأمريكيان في شؤون العدالة الانتقالية مارك فريمان ونريسي لاب هاينر ضمن كتابهما "المصالحة" جمع هذه الآليات في أربعة مداخل أساسية هي: تقصي الحقائق، الدعاوى القضائية، التعويضات، إصلاح مؤسسات الدولة.
شهد العالم الحديث عديدا من تجارب المصالحة التي توزع ما بين إفريقيا وأمريكيا اللاتينية وأوروبا الشرقية. فأول تجربة في أمريكا اللاتينية كانت في الأرجنتين (الهيئة الوطنية حول اختفاء الأشخاص)، التي يعتبرها عديد من المراقبين بمنزلة بوصلة لعدة دول في تلك القارة في مقدمتها الشيلي (الهيئة الوطنية للجبر والمصالحة)، وبوليفيا (الهيئة الوطنية للتحريات حول الاختفاء)، والسلفادور (لجنة تقصي الحقائق بشأن السلفادور)، والبيرو (هيئة الحقيقة والمصالحة)...
وفي القارة الإفريقية نشير إلى جنوب إفريقيا (مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة) التي استهلت مشوار المصالحة في القارة السمراء مقدما درسا إفريقيا للعالم. لتأتي بعدها دول عديدة كأوغندا (هيئة التحريات حول اختفاء الأشخاص)، ورواندا (الهيئة الدولية للبحث حول انتهاكات حقوق الإنسان)، وسيراليون (هيئة الحقيقة والمصالحة)، والطوغو (لجنة الحقيقة والمصالحة)... وغيرها.
عربيا تبدو أن التجربة الوحيدة المعترف بها من قبل المركز الدولي للعدالة الانتقالية هي تجربة الإنصاف والمصالحة في المغرب (2003). التي امتدت أشغالها على مدار سنتين (2004 و 2005) على الحقبة الزمنية الممتدة من 1956 إلى 1999 باختصاص نوعي يهم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وقد وصلت عدد الملفات التي اشتغلت عليها أزيد من 250 ألفا، قررت بشأنها جبر الأضرار الفردية الخاصة بنحو 20 ألف ضحية أو ذويهم عند وفاتها. وأشرفت على استخراج الرفاة من قبور فردية وجماعية ونظمت جلسات استماع عمومية نقل عبر وسائل الإعلام المحلية، وحظيت بمتابعة الإعلام الدولي، ودعم من قبل فعاليات المجتمع المدني، وأصدرت تقريرا ختاميا من خمسة كتب (750 صفحة)، وخلفت توصياتها صدى لدى فئات من الشعب المغربي.
هذه التجربة التي تضافرت عوامل عدة لتقديمها كأول نموذج في العالم العربي، رغم ما اعتراها من قصور ونواقص. إذ لا يتردد البعض بوصفها بـ "مصالحة الحد الأدنى" بالنظر لغياب العنصر الأساسي في كل تجارب المصالحة في العالم ألا وهو المحاكمة.
مهما يكن من أمر تظل تجربة نوعية في سياق عربي يعج بدول أحوج ما تكون إلى مثل هذه التجارب بغية دفن أحقاد وضغائن الماضي أملا في الانطلاقة نحو غد مشرق.
وحتى يتحقق ذلك لا بد من ابتعاد كل الأطراف قدر المستطاع عن المواقف والتصورات المسبقة عن المصالحة الوطنية، التي تؤثر في مدى استعدادها للدخول عمليا في إجراءاتها، وبالتالي تقديم التنازلات والتضحيات من أجل إنجاحها، وتجنب الشروط التعجيزية للاندماج فيها من أجل المصلحة العليا للبلد. زيادة على ضرورة الإيمان بجدوى مشروع المصالحة، أي عدم تبخيس العملية والقبول بالتعايش مع الأوضاع الراهنة نظرا لصعوبة تحقيق متطلبات المصالحة بأشكالها المختلفة.
وحتى يتوفر أكبر الفرص لنجاح هذه التجارب في العالم العربي لا بد من:
- مراعاة الخصوصية الخاصة بكل بلد سواء على مستوى الماضي، وتفادي إسقاط واستنساخ التجارب لأن الواقع بما يحمله من تفاصيل هو ما يحدد أي الطرق نسلك وكيف نسلكها.
- الحرص على المقاربة التشاركية بتمثيلية كل الأطراف المتصارعة دون إقصاء لهذا الطرف أو ذلك الفصيل، مع اعتماد الشفافية والوضوح في المصالحة والحوار.
- إعمال آلية "الحقيقة مقابل العفو" التي يصير بموجبها إقرار الجاني بما ارتكبه من انتهاكات وتجاوزات كشرط للحصول على العفو.
- اعتماد المصالحة السياسية لحل النزاعات والمخالفات القانونية ذات البعد الاقتصادي، والتصالح مع رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق، ممن لم يثبت في حقهم قضايا جنائية.
- إعداد الرأي العام وإيجاد الزخم الشعبي اللازم لدعم ومساندة المصالحة في كافة أطوراها، وهو ما يوجب في المقابل إيقاف خطاب الكراهية المتبادل داخل أوساط المجتمع.
- رسم خطة زمنية لأطوار وإجراءات المصالحة، مع الحرص على اعتماد آليات التشاور مع كافة المكونات لضمان تأييد ودعمها (المجتمع المدني، الأحزاب السياسية، المؤسسات الدينية، أهالي الضحايا...).