أبو سعود .. سياسي بريطاني أرضعته بدوية فعشق الصحراء
هارولد ريتشارد باتريك ديكسون، سياسي ومستشرق بريطاني، من أكثر أبناء جنسه معرفة بطبيعة الصحراء العربية وأعمقهم فهما للقبائل البدوية وأكثرهم اختلاطا بهم، لذلك فقد عرف عن عاداتهم وتقاليدهم وطباعهم وأخلاقهم وأخبارهم الشيء الكثير. ويعتبر كتاباه "عرب الصحراء" و"الكويت وجاراتها" من أهم الكتب في هذا المجال، خصوصا الكتاب الأول الذي جعله مخصصا للحياة البدوية والمجتمع البدوي، والذي يقرأ هذا الكتاب يتضح له مليا مدى عشق ديكسون للصحراء، وإعجابه بالعرب والبدو وعاداتهم وتقاليدهم، ولا عجب في ذلك فهو أخوهم من الرضاع، ومن حبه لهم سمى نفسه أبو سعود، وزوجته أم سعود.
طفولته وسبب تأليفه الكتاب:
يقول ديكسون في تصديره لكتابه "عرب الصحراء" عام 1936 مبينا السبب الذي حمله على تأليف هذا الكتاب: "ولدت عام 1881 في بيروت، وانتقلت مع أهلي بعدها إلى دمشق وأنا لا أزال رضيعا، وقد نضب حليب أمي مبكرا، وحدث أن كان الشيخ مجول، من عشيرة المصرب من السبعة، وهي من قبائل عنزة الفرعية المعروفة، في دمشق في ذلك الحين، فدفعته شهامته للتطوع بتدبير مرضعة لي من نساء قبيلته، وما لبث أن جاءت امرأة بدوية أرضعتني عدة أسابيع كما تقول أمي، والذي يؤهلني في أعين البدو أن يكون لي صلة دم معينة بقبيلة عنزة، لأن رضاعة حليب امرأة ما في الصحراء يجعلك تصبح ابنها في الرضاعة، وقد ساعدتني هذه الحقيقة كثيرا في تعاملي مع بدو الصحراء والبدو المحيطين بالكويت. والشيخ مجول المصرب، والذي لا أشك أن قرائي ما زالوا يذكرون، هو الزعيم البدوي المعروف الذي تزوج الليدي دغبي (والتي كانت في وقت ما الليدي البزه أيضا)، في أواخر الستينيات، وزودها بمنزل مناسب في دمشق، حيث كانت تقضي أشهر الصيف كل عام. وبعد وفاة الليدي دغبي في عام 1881م، استأجر والدي ذلك البيت وقضيت أيام طفولتي وأنا أتنقل في ربوع حديقة المنزل الغناء التي كانت مصدرا لفخر الليدي دغبي وسعادتها في يوم من الأيام، وكنت ما أزال طفلا عندما ركبت الجمل لأول مرة بمساعدة ابن الشيخ مجول الكبير.. والذي ما زال يتذكر ذلك حتى اليوم. وكان والدي في تلك الأيام قنصلا لصاحب الجلالة ملك بريطانيا في دمشق".
هذا ما ذكره ديكسون عن بعض ملامح طفولته، وعلاقة القرابة والصداقة والإعجاب التي ربطته بالعرب، حتى ألف هذا الكتاب "عرب الصحراء" من أجلهم.
ملامح من حياته:
أما بالنسبة لملامح حياته الأخرى، وخصوصا العسكرية والسياسية فقد ذكر نبذا منها ناشر الطبعة الإنجليزية الأولى من كتابه سالف الذكر ما ملخصه: "تلقى الليفتانت كولونيل (عقيد) هارولد ريتشارد باتريك ديكسون تعليمه في مدرسة سانت إدوارد، بأكسفورد، وكلية وادهام جامعة أوكسفورد، ثم انخرط في الحياة العسكرية، وعندما اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى توجهت فرقته العسكرية إلى فرنسا، ولكن نظرا لمعرفته باللغة العربية تم إلحاقه بسلاح الفرسان، وبعث به إلى العراق عام 1914، وترقى في عدة مناصب. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، نقل وكيلا سياسيا في البحرين حتى عام 1920، حيث عاد إلى العراق ليشغل منصب الوكيل السياسي لمنطقة وسط الفرات، وفي عام 1923، نقل إلى الهند ليعمل سكرتيرا خاصا لمهراجا بيكانير، وبعد أربع سنوات عين سكرتيرا للمقيم السياسي بالخليج. وفي عام 1929 توجه إلى الكويت ليشغل منصب الوكيل السياسي فيها ولعب دورا بارزا.
#2#
وأدى تقاعده في الجيش عند بلوغه السن القانونية في عام 1936 إلى تخليه أيضا عن منصب الوكيل السياسي، وظل في الكويت بصفته الممثل المحلي الرئيس لشركة نفط الكويت. ولقد أتاحت صداقته الشخصية للملك عبد العزيز آل سعود، والتي بدأت في عام 1920 واستمرت بلا انقطاع حتى وفاة هذا الحاكم في عام 1953، وصداقته مع العديد من الناس في مختلف المستويات الاجتماعية في الكويت والسعودية والعراق، الفرصة للحصول على قدر كبير من المعلومات القيمة والمباشرة، تم تسجيل البعض منها في "عرب الصحراء". وغني عن البيان ما كان يمكنه إنجاز ما أنجز أو أن يسجل كل ما سجل، وبهذا التفصيل، لولا المساندة المخلصة من جانب زوجته التي يضعها كتابها "الزهور البرية في الكويت والبحرين" في مصاف علماء التاريخ الطبيعي، ذوي القدرات الرفيعة، وفيوليت بنبولوب ديكسون التي تزوجها في عام 1920 كانت عونا ورفيقا لزوجها، فبينما نجدها تقيم معه في خيمتها الصغيرة في البادية، سعيدة بصحبة مجموعة صغيرة من البدو البسطاء، نجدها في الأسبوع نفسه تصاحب زوجها كضيفي شرف بالقصر الملكي في الرياض.
وأيا كان المكان الذي يتوجهان إليه، أو مدى أهمية أو تواضع المناسبة التي يشاركان فيها، فنحن نجدهما يندمجان بطريقة طبيعية تماما ودون أي تكلف أو جهد، مع الوسط المحيط بهما، أو التقاط الصور الفوتوغرافية، أو جمع البيانات ومراقبة أنواع الحيوان، وكل ذلك لهدف محدد هو وضع سجل عن البدو وحياتهم في جوف الصحراء، يظل حيا، إذ وقعت بلاد العرب فريسة أمام زحف الحضارة الغربية". هذا ما قاله ناشر كتابه قبل عشرات السنين، وها هي توقعاته قد صدقت، ووقعت بلاد العرب فريسة أمام زحف الحضارة الغربية.
#3#
ظل ديكسون في الكويت إلى أن توفي عام 1959 ودفن في مدينة الأحمدي، أما زوجته فقد عاشت في الكويت لمدة 30 عاما بعد وفاة زوجها، وانتهت حياتها أثناء الغزو العراقي للكويت حيث نقلت إلى إنجلترا عام 1991 ووافتها المنية هناك.ألف ديكسون كتابين مهمين للغاية، أحدهما كتاب "عرب الصحراء" والآخر "الكويت وجاراتها". أما كتاب "عرب الصحراء" فيعتبر مصدرا أساسا ورئيسا عن حياة الصحراء والبداوة والقبائل، وعن تقاليد البدو وعاداتهم، وعن ثقافة الصحراء بشكل عام، والذي يقرأ هذا الكتاب بتمعن، يتبين له عمق معرفة مؤلفه بالصحراء والبدو، ما يجعله هو والمستشرق التشيكوسلوفاكي ألويس موزل، في طلائع المستشرقين الغربيين الذين يفهمون الحياة البدوية فهما عميقا.
قسم ديكسون كتابه إلى 45 فصلا، عدا الملاحق الأخيرة التي بلغت 33 ملحقا، تحدث فيها عن: حياته في الصحراء، وتحركات الخريف، وحياة البداوة، وشيخ القبيلة، والمرأة البدوية، والخيمة ولوازمها، ونظام البدو الاجتماعي، والشرف العربي، والزواج والطلاق، وعن النساء: ملابسهن، وحليهن، وشعرهن، وعن الأطفال والولادة والختان، وعن الدين والصلاة والحج، وعن الطعام وكرم الضيافة، وعن الفضيلة في الصحراء والمدينة، وعن الموت والدفن والعالم الآخر، وعن التدخين، واحتفالات العيد، والتحية العربية، وعن الفصول والرياح والزوابع الرملية، وأحاديث العجمان وقصصهم، وعن رواية القصص عند البدو، والأحلام وتفسيرها والحكم والأمثال، وعن الحرب عند البدو، والأدلاء وقصاص الأثر، وعن الصقور، والكلب السلوقي والكلب المسعور والحصان العربي، والأغنام، والإبل، والجراد، والطيور البرية والحيوانات البرية، وعن بناء السفن، والغوص وصيد اللؤلؤ، وعن الرق في البلاد العربية وبين قبائل البدو، وعن الأمراض والجريمة، وعن السحر والجن، كما تحدث عن أخبار وأنساب بعض القبائل العربية مثل: العجمان، آل مرة، المنتفق، بني رشيد، العوازم، وشمر وعنزة، وغيرها من القبائل العربية، كما تحدث عن أخبار وأنساب بعض الأسر الحاكمة في الجزيرة العربية.
#4#
وقد طرز كتابه هذا بمجموعة من الصور المهمة لبعض الشيوخ والفرسان، وبنات الشيوخ، وبعض المواقع المهمة. وهو كتاب ضخم مملوء بالمعلومات المهمة، وقد قام بترجمة هذا الكتاب الدكتور محمد التيتي، وأشرف على ترجمته وحققه ونشره سعود بن غانم الجمران العجمي، وصدر عام 1997، وقد حذف من هذه الترجمة بعض الفقرات التي كانت موجودة في الطبعة الأصلية، ومن حسنات هذه الترجمة أن أسماء الأشخاص والقبائل والأماكن وردت فيه بشكل سليم على غير عادة كثير من الكتب المترجمة. كما صدرت لهذا الكتاب ترجمة أخرى عن دار الفكر بدمشق وصدرت عام 1998، وهي أيضا طبعة لا تخلو من التحريف.
الكويت وجاراتها:
يعد هذا الكتاب دراسة تاريخية مهمة عن دولة الكويت والدول المحيطة بها كالسعودية والعراق، ويتميز مؤلفه بالوضوح وصدق اللهجة. وقد قسم كتابه إلى 20 فصلا تحدث فيها عن إمارة الكويت وتاريخها القديم، وعن قبائل وأسر شبه الجزيرة العربية، وعن نشأة الدعوة الوهابية، وعن العلاقات بين نجد والكويت، وعن سوق الشيوخ والناصرية، وعن حركة الإخوان، ورسم الحدود بين السعودية والكويت والعراق، وتناول الأحداث السياسية التي دارت في المنطقة في النصف الأول من القرن الـ 20. وعقد فصلا كاملا عن "الرياض" تحدث فيه عن رحلته إلى الرياض مع زوجته، ولقائه بالملك عبد العزيز، وذكر الموقف العظيم للملك عبد العزيز تجاه القضية الفلسطينية. ترجم هذا الكتاب قديما إلى العربية، وطبع في لندن، ثم ترجم مرة أخرى بواسطة الدكتور فتوح عبد المحسن الخترش، وطبع في الكويت عام 1995.
#5#
وتعتبر هذه الترجمة مثالا جيدا للغاية للترجمة السيئة المحرفة، ومثالا جيدا لعدم النزاهة العلمية، وللتحريف، فالمعلومات التي لا تروق المترجمة تحذفها، فضلا عن التعليقات البعيدة عن الصواب، والأسماء سواء أسماء الأشخاص أو الأماكن محرفة بشكل يصعب معه على غير المتخصص أن يعرف من المقصود، فالحثلين ترد في الترجمة الهذلان، ومعيض: معد، وسبيع: سبيء، والمصاليخ: مسالخ، وصنت: سينت، والشريم: الشاريم، والفغم: الفقم، والصعران: السعران، والبصيص: البوسايس، وبريه: بوريه، والسديري: السودري، والروقة: الرواجه.. إلى آخر هذه التحريفات، التي تشك معها أن يكون من قام بترجمة الكتاب يعرف شيئا ذا بال عن الجزيرة العربية وقبائلها وأسرها، فضلا عن أن يكون من أبنائها، وأستطيع أن أقول إن هذه الترجمة لا يصح الاعتماد أو التعويل عليها. وفي تعليقات الدكتور فتوح الخترش تجن واضح، خال من الأمانة العلمية على تاريخ الملك عبد العزيز.