البلديات بيت الداء وترياق الشفاء
في حوار مع عدد من الأصدقاء حول منزل المستقبل في ظل توقعات بارتفاع تكلفة تشغيل وصيانة ونظافة المساكن في ظل ارتفاع فواتير الطاقة وأسعار العمالة المهنية والعمالة المنزلية، اتفق الجميع على أن منزل المستقبل سيكون صغيرا ويفضل أن يكون شقة سكنية وخصوصا أن عدد أفراد الأسرة في تقلص نتيجة تأخر سن الزواج للجنسين ونتيجة تغير ثقافة الإنجاب والتربية والتحول من الكم إلى النوع، وكذلك نتيجة لتعدد متطلبات الحياة المدنية التي تتطلب توزيعا ذكيا للدخل لتلبية هذه الطلبات.
واتفق الجميع على أن التوجه للمساكن الصغيرة التي تصل لشقة وصالة أحيانا عطفا على تجارب الدول الأخرى، إلا أن أحدنا قال إنه في الدول الأخرى يجد السكان الخدمات التي يريدون في الحي حيث أخذت البلديات في تخطيطها الحضري للمدن والأحياء حاجات السكان النفسية والاجتماعية والرياضية والصحية والترفيهية والأمنية، ولذلك فإن الساكن يلجأ لمسكنه كمأوى في حين يوفر له الحي كل ما يريد من خدمات بخلاف الأحياء في بلادنا.
ففي بلادنا يضطر كل ساكن لمسكن كبير المساحة لإيجاد كل الخدمات في مسكنة لندرتها في الحي أو "الميت" كما أطلق عليه البعض حيث انتشار المخطط الشبكي ذي الشوارع التجارية التي تتخلله بشكل غير معقول وتنتشر المحال بجميع أنواعها في طرقاته كما تجتمع حركة السيارات والمشاة ومواقف السيارات في الشارع نفسه دون فصل بينها، إضافة إلى ندرة الحدائق والمتنزهات ومراكز التنزه والملاعب الرياضية ما يجعل خروج الأطفال في الأحياء أو خروج النساء أيضا لممارسة الرياضة أو المشي ضربا من ضروب المخاطرة وكذلك بالنسبة للشباب وكبار السن الذين لا يستطيعون المشي بعيدا عن مخاطر السيارات.
يضيف أحدنا ليت الأمر يقف عند مخاطر حركة المشاة حيث المخاطر كبيرة حتى بالنسبة لمستخدمي السيارات في الأحياء حيث التقاطعات الكثيرة التي تتطلب وعيا وذوقا عاليا في القيادة وأنظمة مرورية صارمة عند تجاوزها حيث تعتبر حوادث التقاطعات من أخطر الحوادث وهي دائمة الحدوث في الأحياء الشبكية.
ماذا لو أضفنا لأحيائنا الحفريات المستدامة لتمديد خدمات الكهرباء والهاتف والماء والصرف الصحي وما يترتب على ذلك من انتشار للعمالة والمعدات الثقيلة والردميات والمخلفات خصوصا إذا كان الحي في مراحل النمو التي تمتد عادة لأكثر من عقدين أو ثلاثة عقود؟ بكل تأكيد يصبح الحي غير صالح لممارسة أنشطة الحياة المعتادة الأمر الذي يدفع بنا لتعويض ذلك بالمساكن التي يجب أن تكون كبيرة نوعا ما وتحتوي على جميع الخدمات التي تحسن النفسية، وتعزز التواصل الاجتماعي، وتوفر بدائل رياضية وترفيهية، وتحقق عنصر الأمان مما يدور خارجها.
بكل تأكيد توفير كل ذلك في المسكن يجعله غالي الثمن عالي التكلفة لجهة فواتير الكهرباء والماء والصرف الصحي والنظافة والصيانة خصوصا إذا أضفنا لذلك ضرورة وجود غرفة للسائق، حيث لا يمكن لكثير من الأسر قضاء حوائجها اليومية دون سائق أو اثنين ولربما ثلاثة خصوصا إذا كان عدد البنات الموظفات كبيرا كما هو حال بعض الأسر حاليا.
سألت بعض المطورين لماذا تعزفون عن تطوير الأحياء المتكاملة التي توفر المجتمعات المتكاملة التي تتوافر فيها المتطلبات الاجتماعية والثقافية والرياضية والاجتماعية والترفيهية؟ فقال لي إذا أردت أن تحقق أرباحا عليك التوجه لتطوير أعداد محدودة من المساكن في أحياء مطورة لكي تحصل على التراخيص بسرعة وإلا فإن معاملة الترخيص لمخططات الحي تأخذ سنوات طوال قد تمتد لعقد من الزمان بين هيئات التطوير وأمانات المدن والدفاع والمدني وشركة الكهرباء والماء والصرف الصحي وغيرها، وستواجه مشكلات لا حصر لها من موظفين ليسوا مهيئين لدراسة المشاريع التطويرية الشاملة المتكاملة ما يجعلك تلف حول نفسك ولا تعرف أين ينتهي بك الأمر، فما بالك إذا جاءتك مصلحة الزكاة تطالب بالزكاة عن سنوات التطوير وكأنك أنت السبب في التأخير.
إذن وبكل بساطة يتضح لنا أن البلديات بيت الداء، حيث ترخص لمخططات شبكية لا تحقق متطلبات المجتمعات المتكاملة بل تخالفها تماما، ولقد رخصت لمطوري الأراضي ملايين الأمتار من هذه المخططات التي تقتل الحياة في الأحياء وتجعل من مساكنها مستودعات بشرية ولا توفر أي متطلبات السكان الاجتماعية أو الثقافية أو الترفيهية أو البيئية، وفي حال جاء أحد المطورين لتطوير أحياء مجتمعات سكانية متكاملة فإن البلديات تشكل له العائق الاستثماري الأكبر حيث طول مدة إجراءات الترخيص والتدخل بتفاصيل المخطط العمراني للحي دون معايير مرجعية، ما يجعل الجدوى الاستثمارية غير متحققة ليلجأ المطورون لتطوير مساكن محدودة في بلوكات في أحياء مطورة التي انتشرت في السنوات العشر الماضية بشكل كبير.
زارني خليجي من دولة مجاورة قال لي ما هذه الأحياء المتشابكة التي تفتقد الحياة وتجلب الاكتئاب وتتخللها الطرق السريعة الواسعة وتختلط فيها المساكن بالعمائر السكنية والمحال التجارية وتفتقر لأبسط خدمات الحياة الاجتماعية الصحية الآمنة كما تفتقر للخصوصية، حيث لا متجاورات معزولة تكشف الغريب ولا قطع سكنية معزولة فكل شيء متداخل بشكل يجعلك في حالة من العمومية المطلقة؟ قلت له هذا ما لدينا فقال عليكم الإسراع في معالجتها لأنها تسبب الاكتئاب في عمر مبكر خصوصا في ظل انتشار الردميات التي تسبب التلوث البصري بشكل حاد.
وأقول كما أن البلديات هي بيت الداء فهي ترياق الشفاء وأتطلع إلى أن تقوم وزارة الشؤون البلدية والقروية بعقد ندوات وورش عمل ودراسة تجارب دولية بالتعاون مع أمانات المدن وبلدياتها والمطورين العقاريين لمعالجة ما نحن فيه من جفاف إنساني في أحيائنا لمعالجتها وأنسنتها لكي نقبل على السكن في الوحدات السكنية الصغيرة التي تحقق لنا المأوى في حين تحقق لنا الأحياء متطلباتنا الحياتية الأخرى كافة.