السياسة المالية للمملكة .. متزنة في زمن العجز والفائض
تستخدم حكومات العالم السياسات المالية والنقدية للتأثير في الاقتصاد المحلي وتوجيهه لتعظيم الرفاهية الاجتماعية. وتتولى السلطات النقدية مسؤوليات إدارة السياسة النقدية، بينما تتحمل الحكومة المركزية مسؤولية إدارة السياسة المالية. ويحد ربط معدلات صرف الريال السعودي بالدولار الأمريكي من قدرة السلطات النقدية في التأثير على النشاط الاقتصادي، ولهذا تكتسب السياسة المالية دورا قويا وبارزا في التأثير في التطورات الاقتصادية في المملكة. كما تقوم السياسة المالية ببعض مسؤوليات السياسة النقدية من خلال صناديق التنمية المختلفة التي توفر قروضا مدعومة لبعض القطاعات الاقتصادية.
التطورات المالية التاريخية
تسارع نمو إنفاق الدولة خلال الـ46 عاما الماضية، كما هو موضح في جدول النفقات المرفق. وقد ارتفعت المصروفات الفعلية من نحو ستة مليارات في عام 1969، إلى 1140 مليار ريال في عام 2014. وقد شهدت بداية السبعينيات أعلى درجات تسارع نمو الإنفاق الحكومي، ثم تباطأ النمو في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد ذلك استمرت التقلبات في حجم الإنفاق حتى بداية الألفية. وعادت المصروفات العامة للنمو بقوة مع بداية الألفية الحالية وحتى 2014 الذي شهد أكبر إنفاق فعلي في تاريخ المملكة، وأدى التراجع الحاد في الإيرادات النفطية إلى ترشيد الإنفاق الفعلي في عام 2015، ولكنه ظل قريبا من مستويات تريليوني ريال. وتمثل النفقات الجارية نحو 70 في المائة من إجمالي النفقات العامة خلال الـ46 عاما الماضية، بينما يحصل الإنفاق الرأسمالي على الباقي. وترتفع نسبة الإنفاق الرأسمالي عند ارتفاع الإيرادات النفطية حتى أنها تجاوزت نصف إجمالي الإنفاق في بعض السنوات.
في المقابل، نما إجمالي الإيرادات من نحو ستة مليارات ريال في عام 1969 إلى نحو 1.25 تريليون في عام 2012، وقد تراجعت الإيرادات في الأعوام التالية ـــ بسبب تراجع أسعار النفط ـــ حتى فقدت في 2015 نصف مستواها القياسي في 2012. وتمثل الإيرادات النفطية نحو 85 في المائة من إجمالي الإيرادات خلال الـ46 عاما الماضية، بينما تمثل الإيرادات غير النفطية الباقي. وترتفع مساهمة الإيرادات النفطية في إجمالي الإيرادات عند ارتفاع أسعار النفط وتتراجع مع تراجعها. وتتشكل الإيرادات غير النفطية من الرسوم على الخدمات الحكومية المختلفة، والضرائب الجمركية وعلى دخل الشركات الأجنبية وقطاع الاتصالات، والزكاة، وعوائد استثمار الاحتياطيات المالية.
وتظهر بيانات الإنفاق والإيرادات العامة أن سياسة الإنفاق الحكومي تتلخص في رفع المصروفات عند زيادة الإيرادات النفطية وزيادة الاحتياطات المالية للدولة، ثم استخدام تلك الاحتياطات لسد العجز في ميزانيات الفترات التي تتراجع فيها الإيرادات النفطية. وقد تأرجح الميزان أو الحساب المالي بين الفائض والعجز خلال الـ46 عاما الماضية، ولكنه حقق بشكل إجمالي فائضا كبيرا خلال الفترة تجاوز 1.3 تريليون ريال، حسب بيانات مؤسسة النقد العربي السعودي عن المالية العامة. وقد بلغ الفائض المالي أعلى مستوياته كنسبة من الناتج المحلي في عام 1973 عندما تجاوز 43في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. بينما بلغ أعلى قيمة له في عام 2008م عندما تجاوز 580 بليون ريال. أما العجز المالي فقد بلغ أعلى نسبة من الناتج المحلي في عام 1987 عندما وصل إلى نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي، أما من ناحية القيمة فقد وصل إلى أعلى مستوياته العام الماضي. وقد لجأت الدولة إلى الاقتراض المحلي بالريال السعودي بعد تراجع أسعار النفط واستنفاد معظم الاحتياطات المالية العامة للدولة، وذلك في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وألغى تجنب الدولة للاقتراض بالعملات الأجنبية مخاطر تقلبات العملة والضغوط الأجنبية المصاحبة لذلك. وتصاعد الدين المحلي حتى وصل إلى نحو قيمة الناتج المحلي في بداية الألفية، ثم تراجع مستواه بعد تزايد الإيرادات النفطية حتى انخفض إلى نحو 1.6في المائة من الناتج المحلي عند نهاية 2014م. وعاد الدين المحلي للارتفاع بعض الشيء في العام الماضي. ولا يزال الدين المحلي منخفضا بالمعايير العالمية، وهناك مجال كبير للاقتراض من السوق المحلية دون منافسة القطاع الخاص على الائتمان.
وتحاول السياسة المالية قدر المستطاع تجنب منافسة القطاع الخاص على الائتمان عند نمو الدين، وذلك لتوفير قدر كاف من السيولة لاحتياجات القطاع الخاص التمويلية.
أهداف السياسة المالية
تستخدم الدول السياسة المالية لتحقيق عديد من الأهداف، حيث يجري استخدام الإنفاق والضرائب والإيرادات والدين المحلي من أجل تحقيق أهداف متعددة. ومن أبرز أهداف السياسة المالية:
1 - توفير الموارد اللازمة للأمن القومي والاستقرار السياسي
تستخدم السياسة المالية لتوفير الموارد المالية اللازمة لحماية البلاد والعباد من الأخطار الخارجية والداخلية. ويحتل الأمن القومي المرتبة الأولى في أوليات الصرف المالي، كما تستخدم السياسة المالية لدعم جهود الاستقرار السياسي الداخلي ومحاربة الجريمة ودعم جهود ومؤسسات العدالة. ورغم أهمية الأمن القومي والاستقرار السياسي، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في الإنفاق على هذه الأهداف فوق الحاجة الضرورية الملحة.
2 - التنمية والاستقرار الاقتصادي
تلعب السياسة المالية في المملكة الدور الرئيس في تعظيم منافع استخدام الموارد الخاصة والعامة وتوجيهها نحو التنمية. وتحاول السياسة المالية تشجيع الاستثمارات الخاصة والعامة وزيادة مستويات الادخار القومي من خلال زيادة استثمارات الدولة وتبني سياسات تشجيع الاستثمار في رؤوس الأموال البشرية والمادية في القطاعات الخاصة. وتستهدف السياسة المالية من خلال تخصيص جزء كبير من مواردها للاستثمارات في المرافق العامة والبنية الأساسية والخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية خفض التوجهات الاستهلاكية الناتجة عن زيادة الدخل ورفع معدلات تكوين رؤوس الأموال. وتسعى السياسة المالية إلى تحفيز النمو الاقتصادي والتوظيف الكامل للعمالة وتجنب زيادة معدلات التضخم، كما تركز السياسة المالية على دفع مسيرة التنمية، ورفع مستويات الدخل، وتعزيز معدلات النمو الاقتصادي من خلال توجيه الموارد الخاصة
والعامة وزيادة الاستثمارات في رؤوس الأموال البشرية أو المادية. وتحاول الدولة توفير موارد كافية لنفقات الخدمات الأساسية وعلى رأسها الخدمات التعليمية والصحية لرفع إنتاجية العمالة ورفع رفاهية المجتمع. حيث يقود تحسن المهارات التعليمية إلى رفع إنتاجية العمالة وتحسين أجورها وقدراتها على التعامل مع التقنيات الحديثة وتعظيم استفادتها منها. كما يقود تحسين الظروف الصحية للمجتمع إلى رفع معدلات أعمار أفراده وزيادة إنتاجيتهم.
تركز السياسة المالية على القطاعات الأعلى مردودا لرفاهية المجتمع، والتي من أبرزها توجيه الاستثمارات العامة إلى البنية الأساسية مثل المواصلات البرية والجوية والبحرية. وكذلك توفير الخدمات الأساسية واللازمة من أجل التنمية كالمنافع العامة من ماء وكهرباء واتصالات. وتشجع السياسة المالية الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والأساسية المهمة، كما تحفز النموفي القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والسكنية من خلال إنشاء شبكة من الصناديق التي تخدم تلك القطاعات وتوفر التمويل والتوجيه للمستثمرين في تلك القطاعات. وتم تطوير عديد من المرافق لتشجيع الاستثمار في تلك القطاعات، ومن أبرز هذه المنشآت المدن الصناعية والمدن الاقتصادية التي يتوقع أن توفر بيئة مناسبة ومحفزة لنمو القطاعات الإنتاجية، ما سيسهم في دعم النمو الاقتصادية وتوفير فرص عمل كثيرة للأجيال القادمة.
وتسعى السياسة المالية إلى توفير قدر كبير من الاستقرار الاقتصادي من خلال دعم مسيرة النمو المستدام واستغلال أفضل الفرص المتاحة للنمو للحفاظ على التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية وخفض معدلات البطالة لأدنى مستويات ممكن، على أن تكون هذه السياسات غير محفزة للتضخم. وتتأثر المملكة بالأوضاع الاقتصادية العالمية، فعند نمو الاقتصاد العالمي بمعدلات جيدة تتحسن تجارة المملكة الخارجية وترتفع صادراتها وإيراداتها النفطية، وفي هذه الحالة تحاول الاستفادة من هذه الفرص بزيادة الإنفاق على المشاريع التنموية وزيادة احتياطاتها المالية واستثمارها في الأصول الأجنبية السائلة، محاولة في نفس الوقت أن تدر عليها أفضل عوائد ممكنة. وعند تراجع معدلات النمو العالمية وتراجع أسعار النفط تستخدم الأصول الأجنبية للحفاظ على معدلات إنفاق عام محفز للنمو الاقتصادي، ما يدعم اقتصادها المحلي ويدعم أيضا الاقتصاد العالمي من خلال رفع الطلب على السلع والخدمات العالمية.
وتتجنب السياسة المالية قدر المستطاع المبالغة في النفقات العامة وضبطها لتجنب الآثار التضخمية الضارة بالاقتصاد الوطني عند وجود طفرات في الإيرادات النفطية. ولهذا يتم تحويل أجزاء كبيرة من الإيرادات الإضافية الناتجة عن زيادة أسعار النفط إلى احتياطات الدولة. وتستثمر هذه الاحتياطات في أصول أجنبية لخفض مستويات السيولة في الاقتصاد المحلي وخفض الضغوط التضخمية، وتوفير مصادر إيرادات مستقبلية في حالة تراجع أسعار النفط. كما تحاول الدولة ضبط الإنفاق الجاري الذي له تأثير أقوى في معدلات التضخم من الإنفاق الرأسمالي.
توزيع الدخل
يعتبر رفع مستويات الدخل وعدالة توزيع الدخل بين الشرائح السكانية، والمناطق المختلفة، وتجنب سوء توزيعه من أبرز أهداف السياسة المالية. وتكتسب سياسات توفير العدالة في توزيع الدخل أهمية كبيرة للسلام الاجتماعي، ودعم الاستقرار ومسيرة التنمية. إضافة إلى ذلك، ترفع عدالة توزيع الدخل من إنتاجية الشرائح السكانية منخفضة الدخل ما يدعم النمو ويرفع الرفاهية الاجتماعية للمجتمع ككل. وتحاول السياسة المالية في المملكة زيادة مستويات دخول جميع سكان المملكة، وتوفير الخدمات العامة الضرورية وخصوصا في القطاعات التعليمية والصحية لجميع الشرائح السكانية في جميع مناطق المملكة دون تمييز. ويعمل توفير هذه الخدمات على ضمان حصول جميع فئات المجتمع بغض النظر عن دخولهم ومستوياتهم الاجتماعية أو مناطقهم أو أعراقهم أو جنسهم على فرص التعلم والعلاج من الأمراض والرعاية الاجتماعية. وهذا يمكن الفئات السكانية غير القادرة - على توفير هذه الخدمات ذاتيا - من اللحاق بالشرائح السكانية التي تتوفر لديها الإمكانات والموارد الكافية. وقد وفرت السياسة المالية عددا من شبكات الرعاية الاجتماعية ودعما لعديد من السلع والخدمات التي تستهدف الشرائح السكانية الأكثر احتياجا. وتعتبر مخصصات الضمان الاجتماعي التي تستهدف الفقراء من أبرز الأدوات التي توفر حدا أدنى من الدخل للأسر الفقيرة. وتوفر برامج أخرى كحافز أو برامج دعم التوظيف دعما لدخول العاطلين عن العمل وتحسين الأجور المنخفضة. وتشجع مكافآت للطلبة الجامعيين وبرامج ابتعاث الشباب - من جميع الشرائح السكانية - على الاستمرار في التعلم وتحسين أوضاعهم المعيشية المستقبلية. من ناحيةٍ أخرى، يوفر دعم استهلاك الخبز وتوفيره بأسعار منخفضة دعما لجميع السكان وترتفع أهميته لمنخفضي الدخل، كما يتم دعم استهلاك الحدود الدنيا من استهلاك الكهرباء والماء ما يخفض من تكاليف هذه الخدمات على أكثر فئات المجتمع احتياجا. ويوفر خفض أسعار الشعير دعما لمربي الماشية الذين تنخفض دخول فئة كبيرة منهم. ويخدم بنك التسليف والادخار كثيرا من احتياجات الشرائح السكانية منخفضة الدخل، حيث يوفر قروضا معفاة ما يمكن كثيرا من منخفضي الدخل من تحسين دخولهم وأوضاعهم الاجتماعية.
تنويع مصادر الدخل والإيرادات
تسعى السياسة المالية جاهدة إلى تنويع مصادر الدخل من خلال عدد كبير من السياسات، لعل أهمها توفير الدعم المالي للقطاعات الاقتصادية الأخرى من خلال صناديق التنمية وإنشاء البنية الأساسية وتوفير الخدمات الأساسية اللازمة للسكان كالتعليم والرعاية الصحية والتدريب. ومن أهم وسائل تشجيع نمو القطاعات الأخرى هو خفض الأعباء الضريبية على الإنتاج في القطاعات الأخرى، وتشجيع الاستثمار الأجنبي عن طريق توفير عديد من المزايا الضريبية. كما توفر السياسة المالية دعما مباشرا للقطاعات الأخرى من خلال خفض تكاليف عديد من المدخلات خصوصا مدخلات الطاقة، وكذلك إعفاءات الرسوم الجمركية على مستلزمات الإنتاج وعلى معدات وآلات الإنتاج، ومن خلال المشتريات الحكومية.
التحديات المستقبلية
تعتبر السياسة المالية هي الأداة الرئيسة للتأثير في الاقتصاد في المملكة. ويرتفع تأثير السياسة المالية بسبب استحواذ الدولة على الموارد النفطية التي تعتبر المصدر الرئيس للاقتصاد الوطني والصادرات. وقد حققت السياسات المالية كثيرا من النجاحات فيما يخص دعم الأمن الوطني والاستقرار السياسي والاجتماعي، كما نجحت في تحقيق نجاحات كثيرة ومتنوعة في مجالات التنمية ورفع دخول الأفراد ومستوى الرفاهية الاجتماعية. ونجحت السياسة المالية مثلا في توفير الموارد من أجل إنشاء بنية أساسية جيدة، وفي تحقيق تقدم كبير في الخدمات التعليمية والصحية وفي دعم النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة. ونتيجة لذلك تحسنت الظروف المعيشية للأغلبية الساحقة من السكان كما انخفضت نسب الأمية وازداد العمر المتوقع للسكان. ولم تحقق السياسة المالية النجاح المتوقع في بعض المجالات كمجالات التنويع الاقتصادي، وتنويع الإيرادات الحكومية والقضاء على البطالة وحل معضلة الإسكان. من جهةٍ أخرى، تواجه السياسة المالية تحديات قوية خلال الفترة الحالية ومن المتوقع استمرارها لبعض الوقت. ويأتي تراجع إيرادات النفط على رأس قائمة هذه التحديات. وجاء تراجع الإيرادات النفطية نتيجة لتراجع أسعار النفط العالمية، ولتزايد استهلاك المملكة المحلي من النفط والغاز الطبيعي المسعرين عند مستويات متدنية. ولتعزيز الإيرادات النفطية بدأت الدولة في رفع الدعم وبشكل تدريجي عن منتجات الطاقة المحلية وذلك لتعزيز إيرادات النفط والغاز المحلية وخفض نمو الطلب على هذه المنتجات محليا. وتعتمد فاعلية السياسة المالية على الإيرادات النفطية بدرجة كبيرة، ولهذا فإن تراجعها المتوقع خلال الأعوام القليلة المقبلة يمثل تحديا قويا يجبر الدولة على خفض مستويات ونمو الإنفاق، وفي الوقت نفسه زيادة الإيرادات غير النفطية وزيادة الاقتراض المحلي والسحب من احتياطات الدولة. وتتطلب هذه السياسات الحذر الشديد لتجنب آثارها الجانبية السلبية على رفاهية المجتمع والنمو الاقتصادي المستدام.
متخصص في الدراسات الاقتصادية