أسعار الفائدة السلبية.. حالة بالغة الخطورة
يحفظ أمواله في مصرف يجمع فائدة، الذي يأخذ قرضا يدفع فائدة. هذه هي الحالة العادية. لكن هل هذا الأمر هو نفسه اليوم مع الفائدة السلبية؟ الجواب كلا.
حقيقة بديهة: يسدد المدينون للدائنين فائدة للأموال التي اقترضوها يتم تثبيثها بالنسبة المئوية % من المبلغ الذي تم اقتراضه وتدفع سنويا. بعبارة أخرى: المدين يدفع فائدة إلى الدائن. لكن إذا كان سعر الفائدة سلبيا، يجري العكس تماما، إذ يدفع الدائن (هنا عميل المصرف) للمدين (المصرف ذاته) فائدة مقابل أن يسمح له المصرف بـ ”وضع” ماله لديه. هذا مفهوم جديد قلب المفاهيم الاقتصادية رأسا على عقب.
العالم ليس مجنونا كي يقلب القواعد الاقتصادية البديهية، لكن الحاجة الناجمة عن الآثار الاقتصادية والمالية التي برزت في أعقاب الانهيار المدوّي لمصرف ”ليمان براذرز”، والأزمة المالية التي أنتجها، هي التي دفعت عديدا من المصارف المركزية في العالم إلى تخفيض أسعار الفائدة عند مستوى الصفر ودونه. عموما هذه هي التجارب الأولى في تاريخ المصارف المركزية في العالم، واستمرار هذه التجربة مؤشر بحد ذاته على أن الأزمة المالية لا تزال قائمة إلى حد ما.
اختلفت الحاجات والدوافع التي أملت هذا الأمر من بلدٍ إلى آخر، في الولايات المتحدة (مكافحة البطالة)، في سويسرا (الحد من قوة عملتها، والدفع نحو الاستثمار في أسهم الشركات لتعزيز قدرتها التنافسية)، في الاتحاد الأوربي (مكافحة الانكماش)، في اليابان (تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة) وهكذا في السويد والدانمارك. وهنا يقول الاقتصاديون إنه ينبغي العلم أن التوسع في استخدام هذه الأداة سيؤدي حتما إلى تأسيس عالم مالي ونقدي جديد ما زالت بعض ملامحه غامضة ويستحيل التنبؤ بها.
في يناير 2015، استحدث المصرف الوطني السويسري (المصرف المركزي) الفائدة السلبية على حسابات الادخار باقتطاعه فائدة بنسبة 0.75 في المائة (واحدة من أعلى معدلات الفائدة السلبية في العالم) على أصول المصارف وغيرها من اللاعبين في الأسواق المالية الذين لديهم حسابات ادخار في المصرف المركزي.
يشرح، إيف ميرابو، رئيس رابطة المصارف السويسرية الخاصة لـ ”الاقتصادية” أن هذه الفائدة السلبية لا تُطبق إلَّا على الأصول التي تتجاوز كمية معينة من المال معفاة من الفائدة السلبية، أو فقط على الموجودات التي تتجاوز 20 مرَّة الحد الأدنى من الاحتياطي المالي الذي يفرضه المصرف المركزي على المصارف للاحتفاظ به.
يقول، مدافعا عن المصارف التي ينتمي إليها ويمثل أغلبها، إن ما تدفعه المصارف من فائدة سلبية إنما هو مبلغ مُعتبر، مثلا أن مصرفا في سويسرا يدخر في المصرف المركزي أصولا قيمتها 100 مليون فرنك (105 ملايين دولار)، وهو رقم ضئيل بالنسبة لأموال المصارف، عليه أن يدفع فائدة على هذا المبلغ تصل إلى نصف مليون فرنك سنويا (تحديدا 450 ألف فرنك).
أما كيف يتم الحساب؟ يقول: إن المصرف الذي يحتفظ بأصول لدى المصرف المركزي تصل قيمتها إلى 100 مليون فرنك، ولو افترضنا أن الحد الأدنى للاحتياطي الذي ينبغي على المصرف الاحتفاظ به نقدا هو مليونا فرنك، عندها يتم ضرب 2 x 20، وخصم الناتج (40 مليونا) من المبلغ المودع (100-2 × 20)، وتفرض الفائدة السلبية على 60 مليون فرنك، وبمعدل ـ 0.75 في المائة، يبلغ مقدار الفائدة التي يأخذها المصرف المركزي 450,000 فرنك في السنة.
يضيف لـ ”الاقتصادية” أن الفائدة السلبية لا تشمل المصارف وحدها، بل أيضا المؤسسات الصغيرة التي تملك مليون فرنك فأكثر، وبهذا ستصبح المؤسسة التي تملك 10 ملايين فرنك مدينة بدفع 4500 فرنك سنويا مقابل احتفاظها بأموالها. يقول: علينا أن نتخيل كم سيدفع صندوق المعاشات التقاعدية السويسري الذي يملك ما بين 750 و800 مليار فرنك، وشركات التأمين التي لا تقل موجوداتها عن 1.1 تريليون فرنك.
وكانت صناديق التأمينات الاجتماعية السويسرية قد طلبت في رسالة وجهتها إلى المصرف المركزي، أن يتيح لها إمكانية فتح حسابات لديه بفائدة صفر في المائة، لكنها لم تنجح مع ملياراتها هذه لعدم رغبة المصرف المركزي في تقديم استثناءات على قراراته.
يُشار إلى أن ”بانك أوف أميركا”، و”ميريل لينش” دفعا في بادئ الأمر 0.2 مليار دولار عندما بدأ تطبيق أسعار الفائدة السلبية على الودائع المصرفية أواخر 2014. تكاليف المصرفين حاليا تصل إلى ملياري يورو، ويتوقع أن تصل كلفة الفائدة السلبية على المصارف الأمريكية إلى 20 مليار دولار نهاية عام 2018، وفقا لبيانات مصرف أوف أميركا
ويواصل، ميرابو، دفاعه عن المصارف قائلا: إذا كان لا مفر من الفائدة السلبية لدعم الاقتصاد، وهذا أمر لا خلاف عليه، ”فالمنطق يقول إنه ينبغي على لجميع المصارف أن تُلزم عملاءها غير المقيمين في سويسرا بأن يدفعوا جزءا من تكلفة الفائدة السلبية التي تتحملها المصارف لتقليل الأعباء على المصارف.
حتى الآن لم تُطبق المصارف ”أمنية” ميرابو، لكنها كيَّفت نفسها جيدا مع الوضع الجديد. ما يتعلق بأصحاب الحسابات العاديين المقيمين في سويسرا، على سبيل المثال، لمس هؤلاء أعباء جديدة مقابل تلقيهم بعض الخدمات التي يقدمها لهم مصرفهم، ففي بعض الحالات أخذ زبائن بعض المصارف يدفعون ثمن رسالة البريد التي يتلقونها من مصرفهم حول حركة حساباتهم بقيمة 1.80 فرنك لكل رسالة غير إعلانية، وهو ما يشير إلى أن الزبائن لم يدفعوا ثمن طابع البريد فحسب (0.85 فرنك)، بل أيضا الكلفة الإجمالية للرسالة (تكاليف الموظف الذي كتبها، الورق، الحبر… وغيرها).
وللتعويض عن الفائدة السلبية التي تدفعها المصارف للمصرف المركزي، طبقت بعضها (بانك ألترناتيف سويس أولها) ابتداء من 1 كانون الثاني (يناير) 2016 سعر الفائدة السلبية على عملائها، بواقع 0.125 في المائة على الحسابات الجارية للمعاملات المالية الخاصة، وصفر في المائة على الأنواع الأخرى من الحسابات. وابتداء من 100 ألف فرنك سويسري (105 آلاف دولار) يتم إيداعها، أو تم إيداعها سابقا، فرضت بعض المصارف على الأفراد سعر الفائدة السلبية التي حددها المصرف المركزي البالغ 0.75 في المائة، غير أن عتبة تطبيق هذا التدبير ترتفع إلى 500 ألف فرنك (526 ألف دولار) للشركات، ومليون فرنك للمؤسسات.
وردا على سؤال طرحته “الاقتصادية” على بعض المصارف عن سبب عدم إدخالها نظام الفائدة السلبية، قالت أغلبها إنها تقوم بتعويض الخسائر الناجمة عن الفائدة السلبية في أنشطة مصرفية أخرى كالائتمان، والرهن العقاري، وهذا شكل آخر من أشكال تكيُّف المصارف. عموما، لقد تُركَ الأمر منذ البداية للمصارف لتقرر ما إذا كانت، وكيف، ستؤثر الفائدة السلبية في علاقاتها مع زبائنها. واليوم، يمكننا أن نرى أن كبار العملاء وصغار المدخرين لا يُعاملون بالطريقة نفسها من حيث تكلفة الخدمات. هذا الاختلاف في المعاملة ناجم من خشية المصارف من سحب العملاء الصغار أصولهم نحو مصارف أخرى أكثر رحمة، أو أقل قسوة.
سبب تطبيق المصرف المركزي للفائدة السلبية يختلف عنه في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي… وغيرها. فإذا كانت الولايات المتحدة قد أرادت تحفيز الاقتصاد عن طريق التوسع في البناء والمشاريع لمحاربة البطالة أساسا، فقد أرادت سويسرا أن تخفض قيمة عملتها لتشجيع الصادرات والسياحة.
بالنسبة لأوروبا الأمر مختلف، فمنذ ما يقرب من عامين أصبحت معدلات الفائدة السلبية في القارة القديمة واقعا حقيقيا آخذا في الاتساع سواء في منطقة اليورو أو خارج اليورو. فأمام اقتصاد أوروبي راكد بعناد، حوَّل المصرف المركزي الأوروبي سعر الفائدة على الإيداع من إيجابية ( 0.05 في المائة) إلى سلبية ( ـ 0.10 في المائة) بهدف تشجيع المصارف التي تودع أموالها لدى المصرف المركزي على إقراض القطاع الخاص لمحاربة أزمة الائتمان ومخاطر الانكماش.
وكان المصرف المركزي السويسري أكثر تطرفا، إذ طبَّق ابتداء من كانون الثاني (يناير) 2015 سعر فائدة سلبيا بنسبة - 0.75 في المائة مع بعض الاستثناءات النادرة.
بالنسبة للمخططين الماليين السويسريين كان التوجه إلى الفائدة السلبية بمثابة أداة فعالة للسياسة النقدية الهادفة إلى جعل الاستثمارات في الفرنك (أي الإقبال على شراء الفرنك بسبب قوته وثبات سعره) أقل جاذبية من العملات الأخرى، وذلك بجعل الاحتفاظ بالسيولة النقدية في الفرنك باهظ الثمن على المؤسسات المالية من خلال دفعها للفائدة السلبية.
وهكذا، تقلَّصت، على جبهة عريضة، الاستثمارات في الفرنك، وأيضا تقلصت بشدة الفروق في أسعار الفائدة بين الاستثمارات بالعملات الأجنبية وتلك في الفرنك، وتمكن صناع السياسة المالية في بلاد المصارف من دفع المستثمرين للتوجه نحو العملات الأخرى بدلا من الفرنك.
توجه هؤلاء إلى العملات الأخرى بعد أن وجدوا أن الهوة في الربح بين الفرنك والدولار (على سبيل المثال) قد تقلصت نتيجة لما حفرته الفائدة السلبية من فرقٍ شاسع في أسعار الفائدة بين الاستثمارات بالفرنك والعملات الأجنبية، وهنا أصبح الإقبال على الفرنك أكثر اعتدالا، مما خفف من الضغوط عليه.
ويُمكن تلخيص السياسة النقدية أعلاه، بالمعادلة المالية التالية: معدل فائدة سلبي مرتفع نسبيا (0.75 في المائة) على احتياطيات المصارف في المصرف المركزي، يؤدي إلى معدل فائدة سلبي على السوق المصرفية، يؤدي إلى تقليص جاذبية الفرنك أمام المستثمرين، يؤدي إلى تراجع الطلب على الفرنك، يؤدي إلى تخفيف الإقبال على الفرنك الذي يدفعه نحو الارتفاع، يؤدي إلى زيادة الصادرات وقدوم السياح إلى البلاد وغيرها. هذا هو أحد أهم أهداف الفائدة السلبية في سويسرا، وهي ليست ذات الأهداف في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي، على سبيل المثال.
الهدف الرئيس الآخر لأخذ المصرف المركزي بمعدل الفائدة السلبية هي الرغبة في إنزال تأثير مباشر وغير مباشر في سوق رأس المال. فمع الفائدة السلبية أصبح من الصعب أكثر على المستثمرين إيجاد استثمارات جيدة في الفرنك. بمعنى آخر تجريدهم من ميزة خزنهم للفرنك في المصرف دون حراك لتحقيق ما يُعرف بـ ”الاستثمار الآمن”. في هذه الحالة، تكون الفائدة السلبية قد سددت ضربة قوية لـ ”الاستثمار الآمن”، وإن بقي موجودا، ومَن أصر عليه، فعليه أن يدفع ضريبة هذا النوع من الاستثمار، أي يذهب إلى ما يُسمى ”منطقة العائد السلبي”، كعقاب له لعدم إسهامه في تنشيط الدورة الاقتصادية.
يقول ميرابو، الشريك الرئيس الثاني في مؤسسة ”أودييه آند ميرابو”، النشطة في مجال الاستثمار، إن الفائدة السلبية تدفع الناس والمؤسسات الضخمة ذات الأموال، غريزيا، إلى التوجه نحو تحقيق ”العائد الإيجابي” بدلا من ”السلبي”، والمصارف تدرك أن الأرباح الجيدة تكمن في الاستثمارات في الشركات، على سبيل المثال في الأسهم، والعقارات، والابتكارات الحديثة. ولهذا السبب فإن عديدا من المصارف وصناديق المعاشات التقاعدية، فضلا عن المستثمرين من القطاع الخاص أعادوا النظر في استراتيجياتهم الاستثمارية.