الريحاني .. وتاريخ نجد بين الحقيقة والتزوير

الريحاني .. وتاريخ نجد بين الحقيقة والتزوير
الريحاني .. وتاريخ نجد بين الحقيقة والتزوير
الريحاني .. وتاريخ نجد بين الحقيقة والتزوير

كتب التاريخ السعودي الحديث، وتاريخ المؤسس عدد كبير من المؤرخين، وبعضهم كانوا شهود عيان على جزء من هذا التاريخ كالعالم الجليل الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى (ت 1343هـ)، والأديب والشاعر الشهير أمين الريحاني، فيلسوف الفريكة، وغيرهما. وموضوع اليوم عن تهمة موجهة للشخصية الثانية، ومنذ فترة وأنا أنوي الكتابة عن هذا الموضوع، ولكني في كل مرة أمسك بقلمي واستجمع شتات أفكاري لأبدأ الكتابة، أجدني أحجم وأتردد وأتوقف عند السطور الأولى، وما ذاك إلا لأهمية هذه الشخصية ومنزلتها الكبيرة في ميدان العروبة والأدب. أمين الريحاني من الشخصيات البارزة التي كان لها شأن كبير، وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله - يجله ويحترمه ويعامله كصديق له، والريحاني كتب ما كتبه عن الملك عبد العزيز من منطلقات عدة من بينها الإعجاب بشخصية هذا الزعيم العربي الموحد، الذي يسعى لإعادة أمجاد العروبة وإعلاء شأن العرب. واليوم توافرت لدي بعض المعلومات التي أراها كافية لفتح باب النقاش في هذا الموضوع وعرضه على المختصين والباحثين في التاريخ السعودي والقراء الكرام، وكلي ثقة أني سأجد لديهم ما يسلط مزيدا من الضوء على هذه النقطة الحساسة.

ابن مانع:

وأود قبل ذاك أن أعرف بشخصية علمية جليلة مهمة، لها علاقة بالموضوع الذي نطرحه اليوم، وهو الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (1300 – 1385هــ)، أحد علمائنا الأجلاء الثقات ولد في مدينة عنيزة، وطلب فيها العلم وفي مدينة بريدة ثم رحل لطلب العلم إلى العراق ومصر وسورية ولازم أبرز علماء العالم الإسلامي آنذاك مثل الشيخ محمود شكري الألوسي والشيخ جمال الدين القاسمي والشيخ محمد عبده. تولى هذا الشيخ الجليل التدريس في عدة أقطار فقد درَّس في المسجد الحرام بمكة، والبحرين، وقطر، وغيرها. وتولى في قطر الإفتاء والوعظ والقضاء، وفي السعودية تولى رئاسة محكمة التمييز في مكة ثم عين مديرا للمعارف ورئيسا لهيئة تمييز القضاء الشرعي. وفي سنة 1377هــ انتدب إلى قطر بناء على طلب حاكمها وظل فيها حتى مرض ثم ذهب مستشفيا في بيروت فمات بها -رحمه الله.

وكان لدى هذا العالم الجليل مكتبة كبيرة زاخرة بنفائس الكتب والمخطوطات، آلت هذه المكتبة قبل سنوات إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، وفي إحدى زياراتي المتكررة لهذه المكتبة اطلعت على نسخة الشيخ محمد بن مانع من كتاب "تاريخ نجد الحديث" الذي ألفه أمين الريحاني وأطلعت على نسخة ابن مانع الخاصة من كتاب "تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" تأليف جون فيلبي أو الحاج عبد الله فيلبي ورأيت للشيخ المانع تعليقين مهمين على هذين الكتابين.
#2#
التعليق والتهمة:

فعلى نسخته من تاريخ نجد الحديث للريحاني كتب الشيخ محمد بن مانع بخط يده: "في ليلة الإثنين صفر سنة 1368هــ بعد صلاة العشاء جرى الحديث مع جلالة الملك عبد العزيز في قصره العامر بمكة في سيرته وتاريخه وحروبه فسألته عن تاريخ الريحاني فقال: إنه قال فيه شيئا لم أقله، وترك أشياء مما أمليته عليه، ورأيت من جلالته إنكار هذا التاريخ بصراحة تامة فليحفظ".

وعلى نسخته من كتاب "تاريخ نجد" لفيلبي كتب الشيخ ابن مانع: "كنت ليلة عند الملك عبد العزيز -رحمه الله- في قصره بمكة فجرى ذكر التاريخ فقال: لم يكتب أحد في تاريخي فقلت: الريحاني فقال: كذب الريحاني كتب شيئا ما قلته له، وقلت له شيئا لم يكتبه وكان فيلبي في المجلس فأشار إليه الملك - رحمه الله - وقال: كان فيلبي، وهذا دليل على ثقة الملك بفيلبي". وقد كتب الشيخ ابن مانع هذا الكلام في 27 جمادى الآخرة سنة 1383هــ عندما كان في قطر. إذا هذا هو ما نقله الشيخ المانع، وهو الثقة الثبت، عن الملك عبد العزيز، حول رأيه فيما كتبه الريحاني حوله وهو رأي مهم جدا يجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة حول ما كتبه الريحاني عن الملك عبد العزيز. وفي محاولة من كاتب هذه الأسطر لفهم هذه الإشكالية، قمت بالرجوع إلى ما كتبه الريحاني عن الملك عبد العزيز مرة أخرى، وإلى بعض ما كتب عن الريحاني وإلى بعض الدراسات التاريخية العلمية التي تحدثت عن تاريخ الملك عبد العزيز. وخصوصا تلك التي كتبها الدكتور عبد الله العثيمين ووجدت له تعليقة نفيسة ستفيدنا كثيرا في فهم هذه الإشكالية وقبل ذلك أود أن أنقل صدر ترجمة أمين الريحاني التي سطرها خير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام".

الريحاني:

يقول الزركلي بعد أن ذكر أن الريحاني ولد سنة 1292هـ/ 1876م وتوفي سنة 1359هـ/ 1940م: "أمين فارس بن أنطون بن يوسف بن عبد الأحد البجاني، المعروف بالريحاني كاتب خطيب يُعَدُّ من المؤرخين. ولد بالفريكة من قرى لبنان وتعلم في مدرسة ابتدائية ورحل إلى أمريكا وهو في الـ 11 مع عم له ثم التحق بهما أبوه فارس فاشتغلوا في التجارة في نيويورك وأولع أمين بالتمثيل فلحق بفرقة جال معها في عدة ولايات ودخل في كلية الحقوق ولم يستمر. وعاد إلى لبنان سنة 1898م". ثم ذكر أسفاره إلى نجد والحجاز وبعض الأقطار العربية والأوروبية وذكر بعض مؤلفاته وبعض ما كتب عنه. ويلفت نظري في هذه الترجمة قول الزركلي عنه بأنه يعد من المؤرخين، فهو لا يصفه بالمؤرخ إنما يذكر أنه يُعَد من المؤرخين.

وهي ملاحظة مهمة دقيقة من عالم دقيق لها أهميتها الكبيرة في موضوعنا هذا، إذ أن الزركلي من أهم الشخصيات التي كتبت عن الملك عبد العزيز وله في سيرته كتابان مهمان أحدهما وهو الكبير: "شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز"، أما الآخر وهو المختصر فأسماه "الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز".
#3#
كتب أدبا لا تاريخا:

لنقف عند هذه النقطة وننتقل إلى نقطة أخرى تفوقها أهمية ووضوحا. ففي إحدى مقالات الدكتور عبد الله العثيمين في نقد بعض الكتب التاريخية التي تحدثت عن تاريخ السعودية ألمح إلى ذكر منهج الأديب اللبناني الراحل أمين الريحاني "فيلسوف الفريكة" فنقل رأي الدكتور عبد الله الغذامي وهو أن الريحاني كتب أدبا ولم يكتب تاريخا وأيده الدكتور العثيمين على هذا الرأي. وعلى الرغم من قيمة رأي الدكتور الغذامي إلا أن الأهم هنا هو رأي الدكتور العثيمين نظرا لكونه أستاذا للتاريخ الحديث وواحدا من أهم المتخصصين في تاريخ الدولة السعودية، ومن أكثرهم أهمية ودقة. إذا نحن أمام كلام صريح واضح قاله الملك عبد العزيز، ونقله عنه عالم ثقة ثبت. وأمام رأي لأهم باحث معاصر كتب في تاريخ الدولة السعودية وهو الدكتور العثيمين. وهناك رأي ثالث لمؤرخ عراقي شهير هو المحامي عباس العزاوي (ت 1391هـ)، قاله في مخطوطته تاريخ نجد"، وقد أساء القول والظن في الريحاني للغاية، فقال: "تاريخ نجد الحديث: تأليف أمين الريحاني، لم يذكر تاريخ طبعه، لكنه ذهب إلى نجد، وهو لم يكتب التاريخ، ولم يحسن الأداء، فهو خال من الوصف العلمي، لكنه اتخذ التاريخ وسيلة لترويج أغراضه الاستعمارية، أو هو إذا صدق الظن كتب للإنجليز.. ويطول بنا الكلام، وإنما نتعرض إلى أغلاطه في مواطنها. والرجل من دعاة الاستعمار ومروجي أهدافه.. فهو من شياطين الإنس.. الرجل كتب لخدمة الأجانب وتقوية مركزهم في الممالك العربية، ولا يترك أمرا أو ذما من أوجه النقد المر إلا أبداه أو اختلقه، من ناحية لا تمس بالممدوحين، وما كتاب قلب العراق، ولا تاريخ نجد.. إلا أمثلة مما يوضح نزعته، وهو مأجور للكتابة... إلخ".

رأي الريحاني:

في محاولة لاستطلاع رأي أمين الريحاني رجعت إلى كتاب "الملك عبد العزيز آل سعود وأمين الريحاني...الرسائل المتبادلة"، الذي جمعه ونشره أمين ألبرت الريحاني، لعل وعسى أن أجد ما يساعدني ويجلي عني هذه الغشاوة، ولكن الأمل كان يتضاءل كل ما انتهيت من قراءة صفحة من صفحات هذا الكتاب ومع نهاية الكتاب انتهى هذا الأمل فلم أجد بغيتي.

وأود قبل الختام أن أسجل عدة نقاط علها تسهم في تقديم ما ينفع في فهم هذه الإشكالية:

1 - أمين الريحاني شخصية علمية معروفة.

2 - الخطأ وارد في أي كتاب تاريخي فلا أحد يسلم من الخلط والنسيان، أو من التحليل والتفسير الخاطئ، وما وقع فيه الريحاني من أخطاء وقع في مثله غيره ممن كتب تاريخ الملك عبد العزيز من معاصريه، كحافظ وهبه، وفؤاد حمزة، وفيلبي وغيرهم.

3 - الريحاني أديب وفنان ومن الطبيعي أن يعمل خياله الخصب في تصوير بعض الأحداث التاريخية وهذا التصرف لا ينسجم مع الدقة والموضوعية المطلوبة من المؤرخ.

4 - من الثابت أن الريحاني سمع مشافهة من الملك عبد العزيز جزءا من تاريخه وأخباره، وربما إنه في بعض المرات لم يستخدم آلة تسجيل، ولم يدون ما سمعه مباشرة ما جعله عرضة للخلط والنسيان.

الأكثر قراءة