انخفاض الثقة بتوقعات أسعار النفط «1»

بدأت أسعار النفط تترنح منذ نهاية صيف 2014. واستمر تراجع أسعار النفط إلى مستويات مقاربة من 20 دولارا للبرميل الأسبوع الماضي، بل إن هناك صفقات على بعض أنواع النفط الخام الثقيل الكندي والمكسيكي انخفضت أسعارها إلى ما دون 15 دولارا للبرميل. وقبيل بداية هبوط الأسعار، لم يتوقع الخبراء والمختصون والمؤسسات الدولية والمتخصصة في الطاقة والنفط تراجع الأسعار إلى المستويات المتدنية الحالية. ويناقش المهتمون بصناعة النفط أسعار النفط المستقبلية بصورة شبه مستمرة، ومع هذا تنخفض الثقة بتقديرات أسعار النفط المستقبلية بدرجة كبيرة. ولا تصدر الشركات النفطية والدول المنتجة للنفط توقعات لأسعار النفط، وذلك تجنبا للإحراج من سوء توقعاتهم، وإدراكا لنسبة الخطأ الكبيرة في توقعات الأسعار، ومنعا للمنافسين من التعرف على خططهم وسياساتهم الداخلية.
يعود انخفاض الثقة بتوقعات أسعار النفط إلى صعوبة توقع الأسعار المستقبلية والأحداث المستقبلية بشكل عام، فعلم الغيب بيد الله ـــ سبحانه تعالى ـــ ولا يمكن لأحد سواه توقع الأحداث ومنها الأسعار بثقة كاملة أو بنسبة 100 في المائة. لكن هذا لا يمنع البشر من تحري الدقة في إجراء التوقعات المستقبلية للمتغيرات المختلفة، ومنها أسعار السلع والمواد والأسهم والعقار ومختلف السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأوراق المالية. وتحتاج خطط الاستثمار وعقود البيع والشراء المستقبلية إلى التعرف على الأسعار المستقبلية. ولهذا يحاول البشر قدر استطاعتهم وبناء على خبراتهم التاريخية وتقنياتهم توقع الأسعار المستقبلية. ويحقق المستثمرون مكاسب وثروات ضخمة عند صحة أو قرب توقعاتهم من الواقع، ويعانون الخسائر في حالة بعدها عن الواقع.
ونظرا لطبيعة الاستثمار طويلة الأجل في قطاعات إنتاج النفط وخصوصا التقليدي لا بد من تصور سعر معين طويل الأجل للنفط الخام للتعرف على جدوى الاستثمار، والقيام به. وتزداد صعوبة توقع أسعار النفط بسبب كثرة العوامل المؤثرة في الأسعار وانتشارها على مستوى العالم، فجميع سكان ودول العالم يستهلكون النفط بصورة أو أخرى. وتتلخص العوامل المؤثرة في أسعار النفط بشكل إجمالي بالطلب والعرض العالميين، اللذين يتطلب الحصول على أحجامهما التاريخية مجهودا كبيرا. وتزداد صعوبة تقدير الطلب والعرض العالمي المستقبلي بسبب كثرة الدول والعوامل المؤثرة فيها وصعوبة توقعها. ويتأثر الطلب العالمي بالنمو الاقتصادي في دول العالم ونمو قطاعات معينة أكثر من غيرها، فنمو قطاعي الصناعة والمواصلات يؤثران بدرجة أكبر في الطلب النفطي من نمو القطاعات الخدمية. ويزداد الطلب بمعدلات أكبر في الدول النامية من المتقدمة، بسبب ميل التنمية لاستهلاك كميات أكبر من الطاقة عند التوسع في البنية الأساسية. وتسهم أخطاء توقعات النمو الاقتصادي لدول العالم في زيادة خطأ التوقعات المستقبلية للطلب على النفط. ويدعم النمو السكاني والمساحات الجغرافية الطلب النفطي، كما تؤثر التغيرات والطبيعة المناخية في الطلب النفطي، فحدوث شتاء قاسٍ في مناطق عالية الاستهلاك يدعم الطلب بقوة. ويصعب تحري المتغيرات المناخية الفصلية ما يرفع من مستويات الخطأ في استشراف الطلب النفطي.
وتؤثر السياسات الحكومية بقوة على توقعات الطلب المستقبلي على النفطي، فأي تغير في سياسات الدعم أو الضرائب على النفط ومشتقاته يؤثر في الطلب النفطي. وقد قام عديد من دول العالم بخفض الدعم المقدم لاستهلاك المنتجات النفطية ما خفض من آثار تراجع أسعار النفط أخيرا في نمو الطلب العالمي على النفط. كما تؤثر القيود البيئية والأنظمة المرتبطة باستهلاك الطاقة في حجم الطلب النفطي، فإلزام الشركات أو الأسر باستخدام تقنية معينة سيؤثر في استهلاك النفط. ونظرا لصعوبة توقع تغير السياسات المرتبطة بالطاقة تزداد نسبة الخطأ في تقدير الطلب المستقبلي على النفط.
من جهة أخرى، فإن المطالب الدولية بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تلقي بظلالها على مستقبل النفط طويل الأجل. وستزداد الضغوط على أسعار النفط المستقبلية إذا التزمت الدول بالقيود على انبعاثات الكربون.
يتأثر الطلب النفطي بأسعار منتجات الطاقة البديلة، فتراجع أسعار البدائل وتكاليفها يقلل من الطلب النفطي، فقد أدى تراجع أسعار الغاز الطبيعي والفحم الحجري إلى تراجع كبير في استخدام النفط لإنتاج الطاقة الكهربائية. وتلعب تقنيات استهلاك الطاقة دورا حيويا في حجم الطلب العالمي على النفط، فقد يقود تطوير تقنيات معينة إلى دعم الطلب النفطي أو خفضه. ويصعب توقع حدوث طفرات تقنية مستقبلية، ولهذا ترتفع نسبة الخطأ في تقدير الطلب العالمي على النفط في المستقبل طويل الأجل.
تسهم أسعار النفط في تغير حجم الطلب العالمي، فتراجع أسعاره يرفع الطلب عليه وخصوصا في الأمد الطويل، أما في الأمد القصير فإن تغيرات الطلب الناتج عن تراجع الأسعار محدودة. إضافة إلى ذلك تدعم توقعات أسعار النفط المستقبلية الطلب أو تضعفه، فتوقع زيادة الأسعار يرفع الطلب الحالي لتحقيق مكاسب استثمارية في الأسواق المالية، بينما تخفض التوقعات السلبية للأسعار من مستويات الطلب الحالية. وبهذا تلعب التعاملات المالية والمضاربة على النفط دورا في زيادة أو خفض الطلب الكلي، ولكنها تبنى عادة على أساسيات السوق. ويتضح مما سبق صعوبة توقع حجم الطلب العالمي المستقبلي بدقة ـــ وخصوصا في الأمد الطويل ــ ما يخفض بقوة من دقة توقعات الأسعار طويلة الأجل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي