المفهوم الحديث للاستدامة
يتداول مصطلح الاستدامة بشكل كبير في الآونة الأخيرة. ويحذر علماء تغير المناخ الدول والشركات من مخاطر المستويات الحالية لانبعاثات الكربون. كما يطلب من مجالس الإدارات أن تتعامل مع الأمر بشفافية أكبر ويطلب منهم فرض عقوبات على التجاوزات في هذا المجال. حيث ترغب المنظمات غير الحكومية وفئات من المجتمع في أن تحصل الشركات على رخصة للعمل تفرض عليها بموجبها التزامات معينة للعمل بما يضمن مصلحة المجتمع. وقد أعلن الرئيس التنفيذي لبورصة سنغافورة قبل عدة أسابيع، أنه بعد عام من المناقشات لتحديد الآلية التي يمكن تطبيقها في هذا المجال، توصلوا إلى أنه على الشركات المدرجة في سنغافورة تقديم تقرير عن أثر الشركة في البيئة والمجتمع لتطبيق الاستدامة على كل المجالات.
يمكننا مناقشة عديد من الجوانب الفنية حول مستوى التطور الحالي، وتأثيره في كوكب الأرض والمجتمع، ولكن اتجاهات عدة بدأت تتشكل على مدى السنوات القليلة الماضية:
- نستهلك بحسب المعدل الحالي للتعداد السكاني والنمو الاقتصادي، ما يقارب موارد 1.6 كوكب. وهذا يعني بمعدل هذا التسارع أننا سنستهلك المزيد من الموارد التي قد لا نمتلكها مع مرور الوقت.
ـــ بدأ صبر العالم تجاه المصالح الشخصية للشركات في النفاد خلال السنوات الأخيرة، وفي ظل ازدياد الشفافية، أصبحت تجاوزات الشركات معروفة، وتحقيق المكاسب على حساب البيئة والمجتمع أصبح مكلفا، ودون جدوى يزداد إدراك المستهلكين في جميع أنحاء العالم للآثار البيئية والاجتماعية للمنتجات التي يستهلكونها. في حين لم يبدِ بعد أغلبية المستهلكين استعدادهم للدفع أكثر مقابل المنتجات المستدامة، لكنهم يأخذون ذلك بعين الاعتبار عند اتخاذ القرارات الشرائية للسلع المتقاربة في السعر والخصائص. ومن المرجح أن يستمر تزايد الاهتمام واتساع الطبقة الوسطى في الأسواق الناشئة، وزيادة الوعي.
استجاب عديد من الشركات لهذه الاتجاهات من خلال إضافة بعض الأنشطة في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركات، وضمان حصول هذه الأنشطة على الاهتمام الكافي داخل المؤسسة وخارجها، هادفين من ذلك إلى الحد من المخاطر البيئية التي تضر بسمعة الشركة والمحافظة على ترخيص مزاولتها العمل.
بدأت الشركات في سلك هذا النهج الدفاعي الذي بالمقابل لا يعد بتحقيق مكاسب مالية، وليست له أولوية عند التخطيط واتخاذ قرارات الاستثمار. ولكن لحسن الحظ، يبدي عديد من قادة الشركات المبتكرة طرقا أفضل لمواجهة تحدي الاستدامة. لذا ينبغي على الشركات تبني تحديات الاستدامة كنهج لا مفر منه والبدء في العمل في سبيل تحقيقه والنظر إليها باعتبارها فرصة، بدلا من النظر إليها كقيد على ما ينبغي فعله.
توجد الاستدامة قيمة كبيرة، كالنهوض بالفقر في الأسواق الناشئة الذي جذب اهتمام شركات أمثال "نوفارتيس" و"يونيليفر" إلى الهند. وأصبح بإمكان الشركات تحقيق النمو والاستدامة جنبا إلى جنب، حيث تتبنى مثل هذه الشركات نهج الاستدامة خلال إنجازها الأعمال. كما اهتمت الشركات الخاصة بالاستدامة من خلال تطوير كفاءات متخصصة بالبيئة والمجتمع والحوكمة لرصد الفرص الاستثمارية التي توجد هذه القيمة.
ماذا يتعين على الشركات الرائدة فعله لتبني الاستدامة كفرصة؟ يبحث برنامج إنسياد لتطوير التنفيذيين "قيادة الأعمال المستدامة" أربع ركائز رئيسة للمؤسسات الراغبة في التعامل مع الاستدامة باعتبارها فرصة بدلا من مجرد القيد:
الركيزة الأولى: من الضروري النظر إلى التحديات العالمية المتعلقة بالاستدامة على اعتبارها فرصة كبيرة لقطاع الأعمال! وذلك في ظل ازدياد طلب المستهلكين والمنظمين على المنتجات المستدامة، والتطور التكنولوجي الذي يعمل على إيجاد خيارات جديدة، ما سيتيح للمؤسسات فرصا مباشرة أو غير مباشرة لإيجاد وتصنيع وتسويق منتجات وخدمات مستدامة جديدة من شأنها أن تسهم في حل المشاكل الحالية "أو على الأقل ستساعد على تلبية احتياجات المستهلكين دون جعل مشكلات العالم أسوأ". هذا بدوره سيسهم في إيجاد فرص جديدة للمؤسسات التي لديها الوعي الكافي باحتياجات العملاء، وبذلك تصبح قادرة على توجيه استراتيجيها وجهود الابتكار لصالح منتجات وخدمات ونماذج أعمال جديدة، تؤثر بفاعلية في تحديات الاستدامة الحالية والمستقبلية.
الركيزة الثانية: نشر ثقافة" التعامل مع الاستدامة كفرصة" داخل المؤسسة. تعد إعادة تشكيل ثقافة المؤسسة تحديا بحد ذاته، يتطلب كثيرا من المثابرة والعزم لضمان تطابق الرسالة التي تحاول المنظمة إيصالها مع السلوك المرغوب فيه، في هذه الحالة تشجع رسالتها على الابتكار، وتمكين الأشخاص، وتعزيز سلوك شامل وأخلاقي.
الركيزة الثالثة: تحتاج المؤسسة إلى التعامل بطريقة شمولية وفاعلة مع أصحاب المصلحة الأساسيين من خارج المؤسسة، من عملاء وأسواق مالية ومجتمعات، وليس فقط إلى التفاعل مع موظفيها على نحو مختلف. وفي معظم الأحيان تجد المؤسسات صعوبة في النظر إلى العالم بشكل موضوعي. ولكن ذلك يعتبر شرطا ضروريا لإيجاد فرص من شأنها تعزيز القيمة مع أصحاب المصلحة من خارج المؤسسة.
أما الركيزة الرابعة فتقوم على فاعلية القياس وإعداد التقارير. يعد تقديم التقارير داخل المؤسسة وخارجها المفتاح الأساسي. ففي حين أصبح تقديم التقارير للمساهمين بخصوص مبادرات الاستدامة شائعا ومطلبا من المنظمين والمستثمرين، وجب أن يكون وسيلة لتحقيق النتائج المطلوبة وليس هدفا في حد ذاته. فتحقيق فهم أفضل للمؤسسة عن تأثير أنشطتها من أجل توجيه خياراتها في اتجاهات من شأنها تعزيز إنتاجية هذه الأنشطة ومن ثم نقل هذه الخيارات وتأثيرها بشفافية إلى العالم.